العدد 2880 - الأحد 25 يوليو 2010م الموافق 12 شعبان 1431هـ

قصّة مدام «بولر»... دَرْسٌ بكلفة العالَم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مَنْ منا سمِع بـ «مدام بولر»؟. أو باليزا مانينغهام بولر المديرة العامة «السابقة» لجهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني (أم أي 5) كما تُعرَف رسمياً؟ الصورة التي التقطها مُصوّر وكالة الأنباء الفرنسية لحامِلة هذا الاسم وهي تَهِمّ بالنزول من سيارتها للإدلاء بشهادتها في تحقيق رسمي بريطاني قبل أيام بشأن حرب العراق أظهرتها بشكل فيه حسّ مسرحي واضح.

امرأة مُفعَمَة بالجِدّية والغموض معاً. ملامحها قاسية. نظراتها مُوجّهة وحادة. تَحسَب أنها صامتة شاردة الذهن، لكنها غارقة فيما ستقول. ترمق مَنْ حولها فلا تُوفّر أحداً إلاّ وشملته بشكّها وريبتها. ربما هو مسلك ممتهِني العمل الجاسوسي والاستخباراتي عادة. وعندما تكلّمت في إفادتها التاريخية بَان صوتها الرّحوي والمُتهجّد، لكأنّ عمرها جاوَز المئة عام أو يزيد.

وبعد أن استقرّ بها المقام أمام اللجنة المُحَقِّقَة، قالت بولر: «إن تأييد بريطانيا حربي العراق وأفغانستان دفع كثيراً من المسلمين للتّشدّد، وزاد من التهديدات بلاشك، ومع حلول العام 2004، كدنا نغرق فيها. إن الأعباء زادت علينا أكثر من قدرتنا على التحمّل مع تدفق المعلومات على نطاق واسع أكبر كثيراً من طاقتنا على ملاحقتها، فغزونا العراق بعد غزونا أفغانستان اعتبره جيل كامل أنه هجوم على الإسلام».

وأضافت بولر في إفادتها التاريخية: «أجهزة الاستخبارات حدّدت بعد بدء حرب العراق العام 2003 ما بين 70 و80 مسلماً ممن وُلدوا في بريطانيا، ذهبوا إلى العراق لقتال القوات الغربية. وخلال الفترة بين عامي 2001 و2008، حققت بريطانيا في حوالي 16 مؤامرة كبيرة داخل البلاد أحبطت 12 منها» رغم أنه «لم يكن لصدام (حسين) أي علاقة باعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول من العام 2001».

لا يُعلَم بالتحديد ماذا كان موقف البارونة مانينغهام بولر من إرهاصات الحرب على العراق قبل ثمانية أعوام. فقد كانت عضواً في لجنة الاستخبارات المشتركة التي قدّمت تقريرها الاستخباراتي حول أسلحة الدمار الشامل التي اتُهِمَ بها نظام صدام حسين. لكنها قبل عام مضى من الآن صرّحت بأنها كانت تتساءل قبل الحرب «لماذا الآن؟». مُحذّرة من مخاطر احتلال العراق على بريطانيا.

ليس مهمّاً أن يكون موقف «مدام بولر» متبذلاً أو مبدئياً، وخصوصاً مع وجود نماذج عديدة لشخصيات غربية تبدّلت مواقفها بعد الغزو سواء بالنسبة لهانس بليكس كبير مفتشي الأمم المتّحدة للبحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، أو ريتشارد بيرل وكينيث أدلمان عضوا اللجنة الاستشارية للسياسة الدفاعية بالبنتاغون، أو حتى ديفيد فرام صاحب الخطابات الديماغوجية للرئيس بوش الابن.

ما يجب أن يُدرك في أقوال هذه المسئولة الاستخباراتية البريطانية هو استيعاب «قرويّة العالَم». بالتأكيد ليس بمعنى «الترييف» كما يُحبّ أحد الأصدقاء أن يُردّده، وإنما عن أحجام السياسات ومدى تأثيرها وقدرتها على الحركة في مساحة جغرافية مُمتدة لكنها متداخلة المصالح والاتصالات، إلى الحدّ الذي يجعل الصوت وصداه مسموعاً بالمقدار ذاته، وكأننا في بقعة جغرافية لا تتجاوز الأمتار.

كان المؤرّخ الكبير إريك هوبزباوم يصِف العالَم في ثمانينيات القرن الثامن عشر بأنه «أكبر كثيراً وأصغر كثيراً من عالمنا الحالي». حين كان اثنان من كلّ ثلاثة من البشر يعيشان في آسيا، وواحداً من كلّ خمسة في أوروبا، وواحداً من كلّ عشرة في إفريقيا، وواحداً من كلّ ثلاثة وثلاثين في أميركا أو الأقيانوسيا.

وكانت خدمة البريد بين باريس وستراسبورغ تستغرق 36 ساعة، وكان السفر من لندن إلى غلاسغو يستغرق 12 يوماً. ولم يكن الناس ليعلموا ماذا يجري في العالَم إلاّ عن طريق المسافرين الميامين والتجار والبائعين وعُمّال المواسم. (راجع كتاب عصر الثورة أوروبا 1789 – 1848م THE AGE OF REVOLUTION).

أما اليوم فقد تغيّرت الأمور إلى أقصاها. وكان بإمكان أحدنا الإفطار في بلد، والسّهر في بلد آخر. وأن يستمع لما يقوله رئيس دولة ما لشعبه، أو أن يرى تنفيذاً لحكم بالإعدام صدر توَّاً. لقد أصبح العالَم أكثر تفاعلاً مع قضاياه من أيّ زمن مضى. وتحوّلت أصوات الشعوب إلى سلطة معنوية، وإلى محكمة حُرّة تجاه الأزمات على حدّ تعبير جورج جالوب.

إذا كان تقدّم الجيوش في المعركة، مُرتبطاً بسرعة أبطأ أفرادها (حسب تعبير ماركيز)، فإن تأثير السياسات التي تُحسّن ميزانها المعارك مرتبط بأوّل كلمة وُضِعَت على ورقة قرار الحرب. وإذا كانت صورة العالَم بدوله ويابسته وبحاره وفضائه قد أصبحت في متناول أيّ فردٍ، فإن التأثير السياسي الذي عادة ما تخدمه فوهات المدافع بات متدحرجاً في تأثيره ما بين الشرق والغرب. وقد يرتدّ من جديد إلى المربع الأول الذي يحتاج فيه إلى معركة عسكرية جديدة تُدعّم السياسة من جديد.

هذه إشكالية الاعتداء الأميركي على العراق وأفغانستان، وأيضاً إشكالية الحرب الكونيّة على الإرهاب اليوم. وهي بالمناسبة الحرب الوحيدة التي تُشَن على عدو لا يملك حدوداً، ولا سماءً، ولا مواقع عسكرية، ولا مراكز للعمليات، ولا نظام اتصالات، ولا أسطولاً بحرياً أو جوياً أو حتى عتاداً برّياً. إنها حرب مفتوحة، وكأن رجلاً عظيم الجثّة مُدجّج بالسلاح يرمي بالنار في كلّ الاتجاهات داخل غرفة مُظلِمة، يلفّها السّكون في كلّ جنباتها.

لك أن تتخيّل وحسب تقرير لدانا بريست وويليام آكين من الواشنطن بوست، اللذين يتحدّثان فيه عن القدرة التقنية للآلة الحربية الأميركية في قتال القاعدة وطالبان، لترى صعوبة المعركة ضد ما يُسمّى بالإرهاب. يذكر التقرير أن شركة أمنيّة بحجم «جنرال ديناميكس» تستطيع رصد شاحنة أفغانية عبر شاشة الكومبيوتر، ثم تُحدّد هويّة سائقها، وهل هو يقوم يزرع قنابل على جانب الطريق لقتل جنود أميركيين أم لا، ثم متى تحرّكت هذه الشاحنة.

ثم وبنقرة زر واحدة، يُحدَّدُ منزل سائق الشاحنة وزُوّاره. ثم بنقرة زر أخرى تكون الشاحنة أسيرة للأشعة تحت الحمراء، لتمسح كلّ أجزاء الشاحنة، وتحلّل أيّاً من الأدوات الموضوعة بجانب السائق. ثم يُستَعان بخارطة «غوغل إيرث» لكي يُقدّم أحد الصناديق الإلكترونية بقيّة الحديث لآخرين يُتابعون أمور ذات الشاحنة المرصودة. الغريب أن كلّ هذه التقنية الدقيقة لم تعُد ناجعة لإنهاء معركة في وادي كورنيغال الأفغاني بعد خمس سنوات من القتال المستمر!

خلاصة القول، إن أزمات العالَم لم تَعد تختصّ بمناطق جغرافية مُحدّدة حتى ولو كانت تلك المناطق هي المُولّدة والحاضنة للأزمة. وفي ظلّ معركة بحجم «الإرهاب» كما تُسمّى تختلط فيها بُنْيَة الهوية الشرقيّة وهي الدّين مع أفكار عابرة للحدود، فإن التداعيات لن تقتصر على أماكن الصراع. بل إنها تستولد أزمات صغيرة كالخلايا السرطانية تنشط وتهدأ وتقاوم دون أمد مُحدّد. وهو ما يُفسّر إفادة بولر الأخيرة.

والأكثر خطورة في الموضوع أن مثل هذه الحرب التي أصبحت «عقابية للمجموع المُسلِم» كما يتم اختزالها الآن لا يُمكنها أن تتعامل مع أعداد معلومة من البشر المقاتلين، وإنما مع خزّان بشري هائل لم يعد استنزافه منوطاً بمعركة واحدة أو أكثر بل إن ترك الصراع للزمن الممتد قد لا يُنتج سوى صراع مُركّب على الصراع لتستمر المعركة حتى يأذن الله في أمره.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2880 - الأحد 25 يوليو 2010م الموافق 12 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:34 ص

      الحل هو

      ما هو الحل لو ان العالم كله قال لا والحكومات الغربية قالت نعم؟؟؟
      القضية هي هذه فقط وفقط

اقرأ ايضاً