العدد 892 - الأحد 13 فبراير 2005م الموافق 04 محرم 1426هـ

الفلاح المهاجر ابن فايز من الحقل إلى تربع عرش الخطباء

الملا محمد جعفر العرب يتحدث عن قمم المنبر:

من أقطاب الخطابة الحسينية في تاريخ البحرين، يبرز اسم ابن فايز، قمة شامخة يحوطها الإجلال الغموض. وللتعرف على هذه القمة، التقت "الوسط" مع الشيخ محمد جعفر العرب، ليكلمنا بالتفصيل عن هذه الشخصية الفذة. كان مدخل الحديث عما يمتاز به المأتم البحراني عن غيره في طريقة النعي، ومن هو مؤسس هذه الطريقة؟

- للإجابة عن هذا السؤال لابد من ذكر نبذة عن الملا ابن فايز مؤسس هذه الطريقة. المعروف أنه من قبيلة آل فايز بقرية الإحساء، وقد قدم البحرين مثل كثير من الإحسائيين الذين كانوا يأتون للعمل في الزراعة، لما تتميز به من كثرة الزراعة ووفرة المياه، حتى عبر عنها ابن بطوطة بـ "بلد الماء والنخيل". كما كان لوجود اللؤلؤ أثر في ازدهار التجارة، ما شكل عاملا مساعدا لاختيارهم البحرين. وأنا أدركتهم في صغري ورأيت كيف أن كثيرا من المزروعات والنخيل التي شاهدتها وبعضها موجود الآن إنما قامت على عواتقهم.

وماذا عن ترجمته؟

- نشأ ابن فايز في الدير، وامتهن الفلاحة في سترة، وله بيت في موقع مصفاة النفط الآن. امتاز بحسن الصوت، وعذوبة النغمة، وقوة الحافظة، وارتجال الشعر، وحسينية النزعة، والشعبية الكبيرة في أنحاء البحرين. أخذ الخطابة بنفسه ابتداء، وإليه تنسب طريقة الشعر المعروفة بالفائزية، فهو الذي أسس هذا النوع من الشعر في الأقطار الخليجية وخصوصا البحرين، وله الفضل في شيوعه. والخطباء الماضون وحتى الموجودون منهم ينسبون اللحن والطريقة والابتكار إليه.

درج بعض كبار خطباء الخارج على استخدام "الونة البحرانية"، التي يقال إن مبتكرها ابن فايز...

- "الونة" البحرانية مبتكرها ابن فايز، إذ لم يكن النعي سابقا بهذا الشكل. كان يكتفى بقراءة الفخري والمقاتل فقط، وإذا قرئ الشعر "الفصيح والدارج" فيقرأ بطريقة حزينة بدائية على غرار طريقة قراءة الفخري. وشاع ابتكاره وتقبله الناس هنا واستحسنوه، ولقد أدخلت عليه أخيرا بعض التغييرات لا التطويرات.

يستخدم بعض الخطباء العراقيين طريقة النعي البحرانية، وينشدون أشعارا دارجة بحرانية أيضا، فما السر؟

- في فترة ماضية كان يتم استقدام بعض الخطباء العراقيين، وحتى يتفاعل معهم الجمهور أكثر كان يتم قبل ارتقائهم المنبر إسماعهم وتحفيظهم من بعض العارفين أبياتا لابن فايز وبطريقته، ومن هنا شاعت الطريقة في العراق.

من أشهر من أجاد الطريقة الفائزية في النعي؟

- المجيدون كثيرون ولا يعدون، نذكر منهم الملا علي بن سليم، وملا عبدالله أبوطاهر البلادي، وملا عطية الجمري، وعلى رغم أن بعضهم لهم أطواره وأشعاره الخاصة، فإنهم يأتون بطور ابن فايذ تحقيقا لرغبة الناس، ويدينون له بهذا الابتكار.

سمعنا أنه مدفون في البحرين...

- نعم، إن مدفنه في قرية سند الآن، وحقيقة إن الرجل ظلم كثيرا، فهو خادم أهل البيت ويستحق منا العناية بقبره، إذ ينبغي بناؤه.

مرتادو المأتم الحسيني يلحظون في الطور الفائزي تنوع طبقات الصوت، فهل هذا تجديد أم يمثل طريقة ابن فايز ذاتها؟

- كلها تتبع الطريقة الفائزية، فابن فايز استخدم ثلاث طبقات صوتية "منخفضة ومتوسطة وعالية"، والأخيرة كان يستخدمها في المصارع لإلهاب المشاعر. وعرف عنه أنه كان ينزل عن المنبر، واضعا يدا على خده وأخرى على خاصرته، ويطوف بين الناس راثيا ومنشدا.

عذرا، ما الذي يقف وراء هذه الانتقالة، من الفلاحة... إلى تربع عرش الخطباء؟

- أتى ابن فايز كغيره للخدمة، وكان يحضر مجالس العزاء الحسينية... ويوما وقع عليه بعض أرباب المزارع وهو ينشد بعض ما حفظه من الخطباء، فعجبوا من عذوبة صوته، فسألوه ما إن كان أتى خطيبا فأنكر واستصغر نفسه، فأصروا عليه لقراءة الفخري، ولكنه كان أميا، وقيل إنه لم يستمر في أميته بل تعلم "فك الخط". عموما إصرار أرباب المزارع عليه جعله يقرأ في مجالس غير رسمية، وشيئا فشيئا بدأ ينظم الشعر النبطي بنفسه وينشده.

وهل من منافس آنذاك لابن فايز؟

- كان هناك الحاج أحمد بن عباس العالي، وقد عاصر ابن فايز، وكان له جمهوره الخاص إلا أنه لا يفوق جمهور ابن فايز. وللحاج أحمد هذا شعر خاص به يسمى "ركباني"، والركباني هو الشجاع في تأدية عمله. وكان يتبع فيه طورا خاصا أشبه بالسيل إلا أن طوره اندثر ولم يبق له ذاكر. وللعالي ديوان إلا أنه غير مطبوع.

بالكاد نسمع الآن عن شعر لابن فايز، فهل تجاوزه ملا عطية؟

- هذا صحيح، وباعتقادي أن ديوان "الجمرات" - في الأغلب - يفوق في العمق ديوان ابن فايز، ولذلك اكتسح المنبر الحسيني، وأنوه هنا إلى أن الملا عطية استفاد من عدة عوامل افتقدها ابن فايز، فقد جمع الجمري بين اللهجة البحرانية والعراقية فجاء ديوانه بنكهة عراقية ولحن بحراني بحكم قضائه شطرا من حياته في الوسط العراقي، وكذلك أثرت نشأته الثقافية في حمى جدي الشهيد الشيخ عبدالله العرب، ومن بعده والدي الشيخ محسن، إذ تلقى على يديهما كثيرا من القواعد اللغوية والمطالب العلمية والفوائد الخطابية.

إذا هناك جملة أمور تميز بها الملا عطية على ابن فايز، فلقد كان متعلما، ويقول الشعر على السليقة، وكتب ديوانه وراجعه، وابتكر طريقة خاصة به...

- الفخر هنا لابن فايز، فقد عاش في زمان فراغ، وكان أميا، ويرتجل الشعر، ويعتمد على حافظته القوية. في وقت توافرت وسائل تكنولوجية كثيرة للملا عطية، لم تلجئه للحفظ، كما أن كونه متعلما جعل شعره أطوع وهو شعر بليغ جدا، وطريقته لم يكتب لها الخلود بخلاف ابن فايز، حتى أن الملا عطية نفسه لم يكن يترك طريقة ابن فايز بل يأتي بها لرغبة الناس فيها. وعلى رغم ما ينسب لابن فايز من ابتكار للطور، فإن شعر الملا عطية كان أشيع، حتى أنه شاع في الخليج وإيران والعراق إلى درجة أن السيد هادي الكربلائي وحينما كان يقرأ في كربلاء سمع أكثر من مرة يقول: "أهداني الخطيب الملا عطية بعض الأبيات أقرأها عليكم"، ويأتي بها بالطور الفائزي. لذلك سبب فقد الملا عطية فراغا في الساحة.

هل من عمر افتراضي لشعر الملا عطية الذي يردده الكبير والصغير...

- في واقع علمي لا يوجد أي مجدد من الموجودين، فهم معيدون ومرددون، وليس هذا على مستوى البحرين فقط بل على مستوى الخليج كله. وأنا أنتهز الفرصة هنا لألتمس من أبنائه الكرام إخراج ديوان والدهم المنظوم باللغة الفصحى إلى النور. وأشير إلى إصدار طبعة كاملة للجمرات في كتاب واحد تمنيت أن يثبت فيها ما كتبته من تقريض للديوان، ووعدت بنشره في الطبعات اللاحقة.

يبدو من بعض الأبيات أن ابن فايز زار الأماكن المقدسة، فهل يستطيع ذلك وهو فلاح بسيط...؟

- لم نسمع أنه سافر، ولاسيما أنه أجير... اعتقد أنها من وحي الخيال، ومن أحاديث الزوار الذين يصفون رحلاتهم آنذاك وهم يتسامرون.

يزعم الأستاذ سالم النويدري أن غالبية ما في الدواوين منحول، فهل توافقه الرأي؟

- مع تسليمنا أن ديوان ابن فايز محفوظ وليس مكتوبا فذلك يعني أننا لا نستطيع الثقة بما في الديوان، إلا أني استطيع القول إن ما جمعه الحاج أحمد بن معراج غالبيته صحيح، لأنه لازم ابن فايز.

هل تتمسكون بالملا عطية شعرا وابن فايز طورا حتى مع وجود المجددين...

- ليس لدينا مانع إذا ما أتى لنا مبدع أن نقبل ما يأتينا به، ولكني لا أرى في القريب مبدعا، لذلك اعتقد أنه سيكتب لشعر الملا عطية عمر طويل... وهنا أنتهز المقام لأورد هذه الحكاية ودعونا نتأمل في دلالاتها ورموزها... زار صديق لي مكتبة الكونغرس الأميركي، فوجد فيها ديوان الملا عطية الجمري، فما كان منه إلا أن قال: "الله يرحمك يا ملا عطية... حتى إلى هنا وصلت!

العدد 892 - الأحد 13 فبراير 2005م الموافق 04 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً