العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ

عشاق الحرية... والثورة التي لا تموت

"والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد" ليس من عاشق للحرية على مدى التاريخ البشري بطوله وعرضه مثل عاشق الحرية الأول: "الحسين بن علي". يأتي من بعده صحبه وأهله عشاقا أزليون للحرية وطعمها الفريد في لذته. رجل عرف ما يريد وعرف كيف يحقق ما يريد: الحرية للبشر جميعا من دون تمييز. الحرية من ربقة الطغاة والمعتدين بالسلاح والقوة. الحرية من التبعية الفكرية. صحبه وأهله عرفوا قيمة الحرية كما عرفها هو ودفعوا ثمنها غاليا كما هو: جسديا، وحصدوا ربحها عظيما عبر التاريخ: حب البشر لهم وللتضحيات التي قدموها. ما يقارب من أربعة عشر قرنا والحسين وصحبه وأهله علما لا كمثله علم في عالم الحرية. الحسين وصحبه وأهله اليوم يأخذون لهم مواقع متقدمة جدا في صفوف الثوار والأحرار والبواسل، بل إنهم في الصفوف الأولى من صفوفها لا يسبقهم إليها أحد.

"إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما... وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد "ص" أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق" هكذا سطر الحسين بداية مسيرته نحو الحرية. هكذا عرف صحبه وأهله الرسالة وتبعوه في كل شيء حتى لقاء الموت بصدر رحب ونيل الشهادة في سبيل الحرية. جرى كل هذا بعد المشاورة وحرية الاختيار بين الزعيم الخالد وصحبه وأهله، من منطلق: "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" "آل عمران: 159" "وأمرهم شورى بينهم" "الشورى: 38". كانت الصورة واضحة لديه منذ البدء: قضية الرسول العربي العظيم محمد بن عبدالله "ص": تحرير الناس من العبودية البغيضة بكل أنواعها، تحرير المرأة من قيود الجهالة والجهل وفك قيود الوصاية على عقلها؛ العدالة بين بني البشر من دون تمييز لمعتقد أو لون أو طائفة: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" "النساء: 58"، "وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير" "الشورى: 15". كانت مسيرة الحسين نحو الإصلاح محفوفة بالمخاطر الجسيمة إلا أنه رأى أنه تستحق هذه المسيرة نحو الحرية جميع التضحيات. وهكذا كان لسان حال كل فرد من صحبه وأهله: "آليت إلا أن أموت حرا".

كيف يمكننا ومن دون خوف أو جزع أن نسطر كلمة بهذه العمومية والحسين خاص بالعالم الإسلامي والمسلمين، خاص بالعرب وحدهم قبل أية أمة أخرى؟ كيف لنا أن نعمم ثورة الحسين على جميع الأمم وهو الثائر ضد طغاة أمته وطغيانهم، ضد المستهترين بأقدار الأمة وطموحاتها؟ وهل يحق لنا نحن المحبين له أن نفعل ذلك ونحن أمام تاريخ مليء بالثورات والثوار الذين سطروا بدمائهم روائع المعارك التي ينشد أصحابها الحرية؟ سؤال وجيه ويجدر بنا الإجابة عليه من دون أن نكون عمي البصر والبصيرة لهذا التراث الإنساني العظيم.

إن ثورة الحسين في صورتها الأولى قد تظهر للناس عموما أنها ثورة إسلامية عربية في المطلق، غير أننا إذا ما غصنا عميقا في مفرداتها مستنجدين بأهم المعاجم فإننا سنقف أمام نهج فريد من نوعه يهدف في نهايته إلى الحرية للبشرية جمعاء. حرية يتباهى بها الفقراء والمعدومون والناشدون إلى العيش الكريم، حرية يكون فيها رأس الإنسان مرفوعا لا على أسنة الرماح مفصولا عن جسده الشريف، بل بين الكواكب والنجوم. وسنرى من هذا المنطلق كيف أن غالبية الثورات إن لم تكن في مجملها التي سطرها لنا التاريخ والتي كانت تهدف في جوهرها إلى رفع الظلم والحيف عن الإنسان والتأسيس لنظام يكفل للجميع فيه العيش بكرامة قد أكلت أصحابها، أشعلت فيهم النار ووضعت رؤوسهم تحت المقاصل وقطعتها وطاردتهم في كل مكان، بل وفي كل زمان، ثورة الحسين وحدها بين الثورات جميعا قد قتل جل جنودها أعداء الحرية الطغاة المستكبرون، قتلها المجرمون كارهو الحرية وألد أعدائها وشردوا من بقى منهم حيا، ومازالوا حتى يومنا هذا يطاردونهم في عقر دورهم غير مبالين بغضب التاريخ وثأره. إضافة إلى ذلك فإن أبواق دعاية الطغاة الذين تعاقبوا على المضي في هدف دفن نور الحرية الذي أشعله الحسين لم يستطيعوا بكل ما جندوا من أسلحة ومال أن يحققوا ذلك. لقد ظلت شعلة الحرية التي أضاءها الحسين تنير طريق الأحرار، في حين أن نور ثورات أخرى عظيمة في خضمها وجهادها انطفأت شعلتها ولم يبق منها ومن أصحابها سوى عبير يعطر الحياة بين حين وآخر وتنثر عليها النجوم بعض من ضيائها. ثورة الحسين تعيد أهداف الحرية إلى الوجود عاما بعد عام وتتوسع عاما بعد عام إلى مشارف أخرى من العالم.

الحسين في ثورته حافظ على النساء والأطفال ليس على أطفاله ونسائه فقط بل حتى نساء الأعداء وأطفالهم، ولقد ذهب شهيدا جل أطفال وشباب الحسين بسيوف الغدر والهمجية في موقعة كربلاء ومن بعد موقعة كربلاء. الحسين دافع عنهم جميعا حتى الرمق الأخير. في حين أن غالبية الثوار والثورات ضحت بالنساء والأطفال ولم يحققوا قدرا من الحرية لمن بقي حيا منهم وبقوا مطاردين في كل بقاع الأرض حتى أصابهم الموت. تصفحوا كتب التاريخ إذ المشاهد المرعبة لحقيقة الثورات.

عشاق الحرية كثر وعظماء. عشاق الحرية ليس كمثلهم عشاق على وجه البسيطة. عشاق الحرية من أصحاب الحسين ليس كمثلهم عشاق بين عشاق الحرية. هنا بعض الصور:

من أوائل شهداء ثورة الحرية الشهيدان هاني بن عروة ومسلم بن عقيل، فجاء في كتب التاريخ انه وبعد أن تخاذل الجبناء والخائفون على المكتسبات المادية وعلى أجسادهم المترهلة المتخمة: "القي القبض على "هاني بن عروة" و جيء به إلى قصر الإمارة، سأله "عبيد الله بن زياد": "يا هاني أين مسلم بن عقيل؟" قال: "لا أدري" فقال عبيدالله: "آتني به" فقال: "والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه"، فضربه ابن زياد بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وأسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب ثم أمر بحبسه، فتجمع أصحاب مسلم حول القصر وكان عددهم كبيرا في البداية إلا إنهم تفرقوا عنه بعد ذلك بسبب المؤامرات التي حيكت وبقي وحيدا لا ناصر له ولا معين وتم القبض عليه عند سيدة فاضلة تسمى "طوعة" التي لم تدغدغ عواطفها الجوائز الكبيرة التي وضعت للإتيان بـ "مسلم بن عقيل"، لقد اوته بعد أن سقته ماء لشدة عطشه وأخفته عن أعين الجواسيس و المخبرين الذين باعوا دنياهم؛ إلا إن ابنها وكان عينا للطغاة وشي به واقتيد إلى قصر الإمارة. وعندما وقف مسلم أمام عبيدالله قال له: "قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس!" فجاء رد مسلم مدويا في كل ردهات القصر تردده كل جدران الكوفة والعراق: "آليت إلا أن أموت حرا" فأخذ "إلى أعلى القصر وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر "..." وألقي رأسه إلى أسفل القصر واتبع رأسه بجسده" قتل يوم الأربعاء لتسع مضين من ذي الحجة، وهو أول شهداء الثورة. ثم أمر بقتل المحب للحرية والكرامة الإنسانية ابن المال والجاه هاني بن عروة المذحجي فضربت عنقه بسوق الغنم وصلب بمكان من الكوفة يقال له الكناسة قال الشاعر:

"فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هاني في السوق وابن عقيل

أصابهما أمر الامام فأصبحا

أحاديث من يغشى بكل سبيل

إلى بطل قد هشم السيف وجهه

وآخر يهوى في طمار قتيل

ترى جسدا قد غير الموت لونه

ونضح دم قد سال كل مسيل

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فكونوا بغيا أرضيت بقليل"

"جمهرة خطب العرب ج2 ص 36".

لقد دفع هذان العاشقان المتيمان بالحرية حياتهما ثمنا لها. لقد أنصفهما التاريخ وأجزل العطاء لهما ومازال يجزل.

نشاهد من ثم هنا الموقف العظيم وروعة الفكر الإنساني عند الحسين بن علي في لحظة وقوع مصيبة مسلم بن عقيل وهاني بن عروة هذه المصيبة المتوقعة وغير المتوقعة في آن، فبادئ ذي بدء فالحسين لم يجزع ولم يحاول العودة عن ما هو ذاهب إليه: "إصلاح الأمة". الحسين في تلك اللحظة الحرجة من حركته الإصلاحية خير أصحابه وأهله الذين يرافقونه دربه، فقال: "من أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه وليس عليه منا ذمام" فانصرف جماعة منهم بكل حرية تحت نور الشمس وليس في عتمة الظلمة ولم يبق منهم إلا صحبه المخلصون وبعض أهله الذين قالوا مما قالوه: "لا والله لا نبرح حتى "..." نذوق ما ذاق أخونا".

هو الجواب الصارخ نفسه الذي قاله الحسين بن علي للحر بن يزيد الرياحي حين أعلمه بأن الموت هو الذي سيلاقي إن هو لم يعد عن ما هو عازم القيام به:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

وآسى الرجــال الصالحين بنفسه

وفـارق مثبورا يغش ويـرغما

كان الحسين يعلم ان في قدرته الانتصار على الفرقة التي يقودها الحر بن يزيد قبل أن تصل إليه الإمدادات الضخمة إلا إنه لم يبدأ بالقتال لكونه كما تعلم من مدرسة بيت النبوة ومن أبيه ألا يبدأ القتال ضد أشرار القوم الموهومين بالقوة والسطوة وسلب الناس راحتهم ومكاسبهم وأكثرها أهمية مكاسبهم الإنسانية. وانتبه بعض أصحابه إلى تلك النقطة في الخطط الحربية وهو زهير بن القين فقال للحسين: "يا بن رسول الله إن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به" فقال له الحسين: "ما كنت لأبدأهم بالقتال" كما إننا نجد أن الحسين في العاشر من المحرم في الساعة الحاسمة والجيش يحيط به من كل جانب يرفض أن يرمي سهامه صوب القوم لكونه كما قال: "فإني أكره أن أبدأهم" وهذا وإن بدا "جبنا" عند بعض أو "خوفا من الموت" عند بعض، يجيب عليهم الحسين فيقول في هذا الشأن: "لست أخاف الموت، إن نفسي لابكر وهمتي لاعلى من أن أحمل الضيم خوفا من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي، مرحبا بالقتل في سبيل الله".

عاشق الحرية الكبير المغوار، الحر بن يزيد الرياحي، القائل وهو يشارك في ثورة الحسين بعد أن كان ممن أوكل لهم صدها:

إنــــي أنا الحر ومأوى الضيف... أضـــرب فــي اعناقكم بالسيف

عن خير من حل بأرض الخيف... أضــــربكم ولا أرى مــن حيف

وهو الصارخ في القوم بعد أن حاول إعمال العقل معهم وهو البصير بأن ذلك لا نفع فيه معهم: "ضلال يا لك من ضلال".

وبعد أن أبلي بلاء حسنا قتل واستشهد ورثاه الحسين بن علي وهو يقف على رأسه الشريف: "بخ بخ يا حر، أنت حر كما سميت في الدنيا والآخرة" وأنشأ فيه:

لنعم الحر حر بني رياح

صبور عند مختلف الرماح

ونعم الحر إذ فادى حسينا

فجاد بنفسه عند الصباح

في العاشر من محرم قتل الحسين بن علي وصحبه ورجالات أهله وبعض أطفاله وشباب بيته وتركت جثثهم هناك وأحرقت خيامهم وسبيت نساؤهم وأطفالهم وتم التعرض لهم وعرضهم على الناس مكبلين بالقيود دون هوادة ولسان حالهم يردد كلمات الحسين العظيمة: "هيهات من الذلة".

صور عشاق الحرية من أصحاب الحسين كثر والمقام لا يتسع هنا لذكرهم، غير انا لا نستطيع أن نختتم هذه العجالة من دون أن نذكر سيدة نساء العاشقات للحرية والكرامة الإنسانية والتي لم ترعبها حوافر الخيل أو صهيلها أو جعجعة السيوف ولا رحى المعارك ولا رؤوس العظماء على أسنة الرماح، تلك المرأة الشجاعة، المقدامة، الجريئة، الشديدة البأس والثابتة الجنان، ورابطة الجأش التي وقفت تذكر الموهوم بالسلطة والقوة وإهانة الناس من دون جزع أو خوف: "يا ابن الطلقاء" هل عرفت من تكون ومن أكون أنا.

نقول هنا في الختام أن ثورات العالم أجمع: الثورة الفرنسية والثورة البلشيفية، والثورة الأميركية، ثورة كوبا وثورة نيكاراغوا، وثورة إيران، وثورة مصر ولبنان وثورة الهند والسند جميعها لا ترقى إلى ثورة الحسين التي أضحت عالمية ويعرف عنها القاصي والداني وكل من ليس له علاقة بالمجتمع العربي والإسلامي تطرح صورة ذات قيمة للتضحية والذود عن حريات المجتمع والناس. هي ثورة لن تموت. ليس هناك عشاق للحرية يذكرهم التاريخ كما يذكر الحسين بن علي وصحبه وأهله، ليس هناك من عشاق للحرية يطعم في حبهم عشاقهم الفقراء والمحتاجون عاما بعد عام. ليس من عشاق للحرية تبنى باسمهم ملاجئ للأيتام ومستشفيات تعالج المرضى الضعفاء والمساكين وتبنى لهم المساكن، ليس من عشاق للحرية تشكل باسمهم الجيوش لتحارب الطغاة والمستكبرين، ليس من عشاق للحرية تبنى باسمهم المدارس والجامعات على سطح الكرة الأرضية كما هي للحسين بن علي وصحبه وأهله منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنا من الزمن حتى اليوم وهي في ازدياد.

صدق الشاعر حين قال:

"كذب الموت فالحسين مخلد

كلما أخلق الزمان تجدد"

* كاتب كويتي مقيم

العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً