العدد 904 - الجمعة 25 فبراير 2005م الموافق 16 محرم 1426هـ

رفيق الحريري... صورة مختلفة في النخبة اللبنانية

فايز سارة comments [at] alwasatnews.com

.

عندما وضع الانفجار الاجرامي المدمر حدا لحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري ورفاقه على ساحل بيروت في 14 فبراير/ شباط الجاري، انتهت سيرة وتجربة شديدة الخصوصية في الحياة السياسية اللبنانية، تجربة رجل جاء الى نادي النخبة اللبنانية من خارجها، ثم لم يلبث خلال وقت قصير، ان صار الأبرز والأكثر فاعلية ونشاطا في رجالاتها لدرجة أن غيابه عن لوحة النخبة اللبنانية سيؤدي الى حدوث تبدلات جوهرية في رموزها واتجاهاتها، وهو أمر كان من المنتظر ان يحدث بهدوء أكثر بوجود الحريري في هذه النخبة لو لم يغب على تلك الصورة المأسوية والوحشية في الانفجار الدموي على ساحل بيروت.

وبدايات رفيق الحريري المولود في مدينة صيدا الجنوبية في العام 1944 لعائلة متوسطة، لم تكن تختلف كثيرا عن بداياته عن أمثاله في البحث عن مشروع حل لإشكالات الحياة ومتطلباتها سواء على الصعيد الفردي أو العائلي، وهو أمر حدد مسار حياته الأولى بالتوجه الى الدراسة من مستوياتها الدنيا الى الجامعية التي كانت غاية الطموح، لكنها كانت طوال الوقت مليئة بالصعوبات على نحو ما هو عليه حال الذين يشبهون رفيق الحريري في تلك الأيام.

ومثل كثيرين من أبناء جيله، فقد كانت بلاد النفط العربي في الستينات قبلة يتوجه إليها الباحثون عن خلاص من أوضاعهم الصعبة، اتجه رفيق الحريري في العام 1964 الى المملكة العربية السعودية للعمل موظفا في قطاع المقاولات واستاذا في سلك التعليم، وبعد سنوات من الجهد والنجاح والخبرة أسس في العام 1971 شركة "سيكونيست" للمشروعات الإنشائية، اتبعها في العام 1978 بإنشاء شركة "أوجيه" السعودية للمقاولات العامة، ونفذ بواسطة الشركتين بعضا من أهم المشروعات في السعودية وبلدان عربية وأجنبية، كانت مقدمة لتوسع نشاطات الحريري وتعدد استثماراته في العقارات والمصارف وغيرها.

ونجاح الحريري في قطاع الأعمال والمال، فتح عينيه على إمكانات جيدة صار يملكها، ويمكن ان يوظفها في مجالات جديدة، وكانت تداعيات الحرب الأهلية في لبنان وما خلفته من آثار في حياة اللبنانيين وظروفهم الصعبة دافعه للالتفات الى لبنان بما هو أبعد من الأمر الشخصي والعائلي، ليصير لبنان واللبنانيون محط اهتمامه العام، ومنذ ذاك نشأت اللبنات الأولى لاهتمامات الحريري بالشأن اللبناني العام، وبدأت في هذا المرحلة الأخرى من حياته.

والاهتمام بالشأن اللبناني العام من جانب الحريري لم يبدأ سياسيا بالمعنى الدقيق للكلمة، وهذا أمر طبيعي عند شخص مثل الحريري، تأسس بعيدا عن الانشغالات السياسية المباشرة، وأخذته انشغالاته في قطاع المال والأعمال عن السياسة، وعليه فقد اهتم الحريري بالجوانب الانسانية والاجتماعية من الشأن العام اللبناني، وكانت البداية إطلاق مؤسسة الحريري في العام ،1979 التي رعت في لبنان وعبر العالم عملية تعليم لنحو 34 ألف طالب وطالبة في مختلف الاختصاصات العلمية ومن مختلف المذاهب والطوائف اللبنانية والمواقع والشرائح الاجتماعية.

وكانت هذه العملية بما احتوته من دلالات وتعابير، مدخلا لتطور اهتمامات الحريري بالشأن العام اللبناني وخصوصا بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان في صيف العام 1982 والذي ترك آثارا مدمرة في الحياة اللبنانية أضيفت الى ما تركته الحرب الأهلية من آثار، وجاء في إطار اهتمامات الحريري بالوضع اللبناني قيامه في العام 1983 بتأسيس مجموعة مؤسسات للخدمات العامة تضاف الى مؤسسة الحريري بينها مستشفى، وثانوية، وجامعة، ومركز رياضي، وزاد على ذلك، ان وضع إمكاناته تحت تصرف الدولة اللبنانية لإزالة آثار حصار بيروت، وتمخض جهده في جانب آخر عن نجاح في إعادة فتح مطار بيروت الذي كان يعني إعادة ربط لبنان بالعالم، فيما كان يتابع القيام بدور وطني يوقف الصراعات الدائرة في لبنان، ويعيد اللحمة بين مختلف الاطراف اللبنانية.

والأهم في جهد الحريري خلال تلك الفترة من الثمانينات كان دوره في تنظيم الحوار اللبناني - اللبناني في مؤتمري جنيف ولوزان لتوطيد دعائم الوفاق الوطني، وهو الحوار الذي مهد لاتفاق الطائف في العام ،1990 وأنهى عقدا ونصف العقد من الصراع اللبناني، ووضع لبنان على قاعدة استعادة اوضاعه الطبيعية، وعودة اللبنانيين الى حياتهم الاعتيادية، وكان للحريري دور مهم ومؤثر في اتفاق الطائف ما عزز موقع الحريري في النخبة اللبنانية، وجعله أبرز وجوهها السياسية.

لقد فرض الحريري نفسه على النخبة السياسية في لبنان الى حد ان طلب إليه الرئيس إلياس الهراوي وكان في العام 1992 رئيسا للبنان، ان يقوم بتشكيل الحكومة اللبنانية، وتكرر ذلك في العام ،1996 وفي العام ،2000 وهي وزارات حملت كثيرا من التغييرات في الحياة السياسية في لبنان، ربما كان الأهم فيها اعادة التوازن بين منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الذي كان قد اختل في الفترات السابقة لصالح رئيس الجمهورية، والأمر الثاني تقدم الدولة اللبنانية لإعادة بناء لبنان ومؤسساته، وكان في تعبيرات ذلك إعادة إعمار وسط بيروت، واستعادة حياة المؤسسات اللبنانية التمثيلية في مجلس النواب والبلديات، وإحياء مؤسسات الدولة ولاسيما مؤسسة الجيش.

لقد جسد صعود الحريري وجوده في النخبة السياسية اللبنانية، بداية تحول في طبيعة النخبة ودورها من خلال ثلاثة أمور أساسية، الأمر الأول انه ربط بصورة عملية بين توجهه لخدمة لبنان ومصالح اللبنانيين التي رعاها الحريري من خلال خدمات ومشروعات انعكست بفائدة ملموسة ومباشرة على فئات وقطاعات لبنانية متعددة وفي مناطق مختلفة. والثاني استعداده لوضع قدراته وإمكاناته المادية وعلاقاته في خدمة لبنان واستعادة دوره في المستويين الاقليمي والدولي، والأمر الثالث، ان الحريري لم يكن يحمل الإرث الثقيل لغالبية وجوه النخبة السياسية في لبنان، والتي تعود الى بيوتات تقليدية، كثيرا ما ألحقت بها تطورات السياسة اللبنانية وخصوصا في سنوات الحرب الاهلية تشوهات وندبات، إضافة الى ان غالبيتها ترى في السلطة ميدانا للثروة، وكلها ملامح كانت مختلفة عن ملامح الحريري الذي رسم خطا جديدا في الحياة السياسية اللبنانية، لن يوقفه غياب الحريري، كما لم تمنع معارضة الوسط العائلي الحريري عن الذهاب الى السياسة، فالقدر لا توقفه الارادات في النهاية

العدد 904 - الجمعة 25 فبراير 2005م الموافق 16 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً