العدد 907 - الإثنين 28 فبراير 2005م الموافق 19 محرم 1426هـ

كان زمان

جعفر الديري comments [at] alwasatnews.com

جلست مرة مع أحد شيوخ القرى. رجل مهيب وقول فصيح ولسان ذلق وحكايات جميلة لا تنتهي. كان من قبل يعمل فلاحا حتى إذا كبر أبناؤه باع مزرعته وبنى لأبنائه شققا يعيشون فيها هم وأبناؤهم. واكتفى هو "بجنينة صغيرة" ونخلة وحيدة وحصير يجلس عليه ومخدة يستند إليها، وثغاء بقرة يصل من بعيد إليك وأنت تستمع إليه.

وكانت السيجارة وكوب الشاي لا يفارقانه، وخصوصا بعد أن ماتت زوجته وانشغل عنه أبناؤه وبناته. فزوجته - بحسب ما يقول - كانت لا تطيق رائحة السجائر وترغمه على التدخين خارج المكان الذي تجلس فيه، فلما فقدها لم يستطع أن يفارق السيجارة فهي رفيقته بعد زوجته.

وكان المساء ليلتها دافئا حزينا، عندما سألته عما يشعر به بعد أن ظل وحيدا في هذا المكان وما الذي وهبته إياه الحياة وأخذته منه. فنفث في سيجارته وأخذ في مراقبة الدخان وهو يتطاير قطعا في الهواء وسرح بعيدا حتى أيقظته كحة مني لم تكن مقصودة. فقال: "لم تأخذ مني الحياة سوى من أحببت، أولئك الذين أحببتهم بكل جوارحي. إذ لم يبق منهم غير شيخ هرم أقعده المرض وشل رجليه، فلا أراه إلا لماما. أما ما بقي من الحياة فلا يستحق أن يذكر فقد عشت طوال عمري إنسانا مثابرا أستيقظ مبكرا للعمل، فأعمل طوال اليوم ولساني لا يفتر عن ذكر الله وشكر نعمائه. وكنت سعيدا لأني كنت آكل بشهية بعد تعب وألتقي أصدقائي في أوقات محددة، فكنت أشعر بالمحبة الخالصة منهم. غير أن المال الذي كنت أشقى في جمعه صباحا كان يتبخر ليلا، حتى الأرض والمزرعة التي كانت لدي لو لم أملكها أبنائي لذهب كما ذهب كل شيء مني. ورمق السماء مرة أخرى وسرح بعيدا فتركته لسرحانه

العدد 907 - الإثنين 28 فبراير 2005م الموافق 19 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً