العدد 909 - الأربعاء 02 مارس 2005م الموافق 21 محرم 1426هـ

يوميات صحافي سائق تاكسي... بعبع المخابرات

الوسط - محمد الرديني 

تحديث: 12 مايو 2017

ذات يوم تناقلت الصحف العالمية خبر فصل 137 صحافيا عراقيا من نقابة الصحافيين العراقيين إذ نصب أحد ابناء الرئيس العراقي السابق نفسه نقيبا عليهم ولأن سلطته لا تطال الصحافيين العراقيين في الخارج فقد أصدر قرار الفصل هذا معتبرا اياهم اما مأجورين أو مرتزقة أو مرتدين. ولأن العراق كان ساحة أخبار لكل صحف العالم آنذاك فقد نشرت بعض الصحف العالمية هذا الخبر مع اسماء الصحافيين الذين شملهم هذا القرار وكان كاتب هذه السطور من ضمن هذه القائمة.

ولأني أعرف كما يعرف غيري ان هذا القرار يعني بالدرجة الأولى ان هؤلاء الصحافيين غير مرغوب فيهم وبالتالي فإنه يعني - أي هذا القرار - ان اغتيال هذه الاسماء غير المشروط بزمن محدد هو امر وارد أيضا.

ليس هذا هو الخبر بل التفاصيل بعد الآتية هي الخبر نفسه.

وكان من الطبيعي ان يتخذ الواحد منا احتياطاته، لأنه يعرف تماما ان القتل عند هؤلاء مثل "شرب الماء" كما تقول أمي، ولهذا سارعت للاتصال بعمدة مدينتنا "اوكلاند وهي المدينة التجارية لنيوزيلندا" الذي حدد لي موعدا شرحت له فيه الوضع بالتفصيل.

وعدني العمدة خيرا، وطمأنني إلى ان بلدا مثل نيوزيلندا لا يمكن ان تبالي بهذه التهديدات.

لم تمض عشرة أيام حتى جاءتني رسالتان احداهما من وزير الخارجية والثانية من عمدة المدينة:

جاء في رسالة العمدة ما يأتي:

"لقد احلنا مخاوفك إلى وزير الخارجية الذي أكد انك ستكون في مأمن من كل الادعاءات التي نشرت في الصحف، كما خاطبنا الجهة المختصة التي لا يخامرها شك في انك تعيش في بلد آمن ونؤكد لك ان الجهات ذات العلاقة قد أخذت الموضوع في غاية الجدية".

اما وزير الخارجية فقد ذكر في رسالته ما يأتي:

"لقد اهتممت بموضوع رسالتك ونحن يهمنا جدا ان يعيش جميع النيوزيلنديين آمنين في بلدهم، لقد اوعزت إلى الجهات الأمنية لتقوم بمسئولياتها المفروضة في هذا الخصوص، أرجو ان تكون مطمئنا إلى اجراءاتنا".

أكرر ان هذا أيضا ليس لب الموضوع، فبعد وصول الرسالتين بأقل من أسبوع رن هاتف البيت وسمعت صوتا من الجانب الآخر يقول:

"انا جوناثان كيفن من المخابرات النيوزيلندية أرجو إذا لم يكن لديك مانع ان تحدد لي موعدا لأقابلك بشأن رسالتك إلى مستر موريس وليمسون عمدة منطقكتم".

وحددت له موعدا على رغم ان الأمر بدا لي غير مهضوم أو بمعنى أدق غير مقبول لدخول طرف مكروه لا يتمتع بحسن سيرة وسلوك في وطننا العربي على الخط.

جاء الضيف - غير المرغوب فيه - بحسب الموعد وكانت الساعة آنذاك الثانية من بعد الظهر. تحدثنا طويلا، ولم يكن هذا هو الخبر نفسه أيضا.

الخبر هو ان هذا الشخص كان في غاية الدماثة طوال ساعة من الحديث، وفجأة قطع الحديث ليسألني عن موعد وصول الأولاد من المدرسة فقلت له انهم عادة يأتون بعد الساعة الثالثة بقليل. رأيته ينهض قائلا:

"انها الساعة الثالثة وخمس دقائق الآن، لاشك في ان الأولاد سيأتون في أية لحظة وعلي ان انصرف على ان ازورك في يوم آخر".

لم افهم ما قاله بالضبط وحين وجد الحيرة على وجهي قال ببطء ملحوظ:

"حين يروني أولادك هنا سيسألونك عني وسيمطرونك بوابل من الاسئلة لا أول لها ولا آخر حين يعرفون من انا، ولا اريدك ان تتعرض لهذا الموقف كما لا اريد ان يشعر الأولاد بالقلق، لهذا ليس من المستحب ان يروني هنا سأتصل بك لنحدد موعدا آخر".

غادر الرجل "المخابراتي" البيت وتركني شبه مذهول غير مصدق ما جرى. سألت نفسي: هل حقا يعني هذا الرجل ما يقول ام انه يلعب إحدى لعبهم المعروفة. بصراحة لم اعثر على الجواب حتى الآن لأني ببساطة لا اثق بكلام السلطة فلدي كما لدى كل أفراد شعبي تراثا سيئ الصيت عن هؤلاء الرجال.

حين كنت اسمع القصص والحكايات التي تروى عن رجال المخابرات في بلادنا العربية أشعر اني محظوظ جدا فلم يتسن لي ان التقي بواحد منهم بعد ان تركت بلدي منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولكن المؤسف حقا اني وجدت نماذج عربية مستنسخة منهم في بلاد الغربة... نماذج مريضة بداء الهلوسة المخابراتية أو بمعنى ادق مرض الشيزوفرينيا الاستخباري أو لنقل انهم خلقوا اما ليخافوا من تلك الهلوسة أو انهم يحبون بشكل مطلق ان يكونوا نسخة طبق الأصل من هؤلاء.

كما ان هناك أنواعا من البشر خلقوا ليتوهموا انهم بشر من طراز خاص، والخاص الذي اعنيه ليس امتيازا لهم ولا عبقرية وانما هو اشبه بذاك الذي يريد من الآخرين ان ينظروا إليه بعين العطف مهما كانت الاسباب، انهم يستمدون وجودوهم الإنساني من الضعف بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، بإيجاز انهم يريدون ان يحس الآخرون بضعفهم حتى يستدروا عطفهم.

ولأن مثل هؤلاء البشر مؤهلون للاستكانة وليس لشيء آخر، فإنهم يرون في كل شيء من حولهم إشارة إلى الرقابة والمراقبة وما دار في فلكهما. إذ تجدهم في سني حياتهم الدراسية الأولى - في الابتدائية مثلا - يكرهون مراقب الصف لأنه ببساطة جاسوس المدير الذي وضعه في هذا المنصب، وفي الإعدادية يكرهون الطلاب الاذكياء لأنهم قريبون من الاساتذة وفي هذه الحال فإنهم مستعدون - أي الطلاب الاذكياء - ان ينقلوا أسرار الطلاب الخاصة وما يتناقلوه ضد الاساتذة من شئون خاصة تتعلق ربما بمشكلاتهم الجنسية أو غيرها.

وفي الجامعة يبدأ التحزب الاهوج أو ما يسمى بالشللية بعد ان تتلاقى مشارب الخوف مع بعضها عندهم: فهذا الشاب سخيف لأنه يركض وراء البنات وذاك منطو على نفسه ليقولوا عنه انه عبقري، اما ذاك الذي يحمل حقيبة "السمسونايت" فإنه يتأهب ليكون معيدا بالجامعة... ثم ذاك وذاك وهذا... إلخ.

وبعد التخرج تبدأ مرحلة التآمر الوظيفي - هذا إذا أكمل أحدهم الخدمة العسكرية الإلزامية في المدة المحددة وهو مستحيل - فالكل يريد ان ينهش الكل من أجل الكرسي، والكل يشعر بانه أحق بمنصب المدير مهما جر ذلك المنصب له من متاعب... لماذا؟ لأنهم لا يشعرون بوجودهم الا إذا جلسوا على كرسي الأمر والنهي حتى ولو كان الذين يؤمرونه فراشا مغلوبا على أمره أو موظفا من الدرجة الرابعة بعد العشرين، وحتى لو قدم هذا الكرسي لهم بالوكالة.

ولكنهم يكتشفون بعد زمن ان هذا الكرسي فتح عليهم عيون البعبع، فالفراش الذي يقدم لهم الشاي الصباحي يعرف الكثير من خباياهم كما ان موظف الشئون الذاتية يعرف سيرة حياتهم الوظيفية من الملف " البني". اما القلم السري * فهو قسم لا يعلم ما يدور بداخله إلا قادة "الفصائل" والراسخون في كتابة التقارير الاستخبارية ثم هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم " انصار النظام".

ولا تسأل عن حياتهم الزوجية، فهم يعودون من العمل منهكي الأعصاب، شاردي الذهن، يمدون بوزهم ثلاثة أمتار إلى الأمام، نظراتهم تنتقل من البؤبؤ إلى البؤبؤ كما ينتقل رقاص ساعة الحائط. وتعتقد الزوجة المسكينة ان هذا الزوج يفني زهرة شبابه في الوظيفة، وما عداها فالكل يعرف ان زهرة هذا الشاب قد فنيت في أمور أخرى ليست منها هذه الوظيفة بالتأكيد.

ويتفنن هؤلاء في رسم التعابير المحزنة على وجوههم فهم، كما قلنا، يريدون العطف ولاشيء غيره.

ولهم بعد ذلك مواهب اخرى فهم يتفننون في ضرب طوق العزلة حولهم، ونادرا ما تجدهم يمدون ايديهم لصداقات جديدة فهم مثلا لا ينادون على بعضهم باسمائهم المجردة وانما هم دائما اما "أبوفلان" أو"أبوعلان". ولست أجد تعبيرا ادق من تعبير القاص العراقي عبدالستار ناصر حين نعتهم "بالخرفان" ولكن بآذان طويلة ولحية ذات اهداب قصيرة... انهم كذلك حقا، حتى لحاهم تبدو مثل مزرعة "أبوداوود" *: الحشيش والبرسيم والكرفس والفاصوليا في مكان واحد.

والغريب في الامر تراهم يتراكضون في أيام الجمع إلى المساجد لأداء فريضة الصلاة حتى إذا انتهت عادوا من حيث أتوا: عيون زائغة تراقب الآخرين باذان طويلة تلتهم همس الآخرين والمقربين، وسيقانهم النحيلة ترتجف مثل بوز الأرنب راكضة نحو الظل تحتمي به ضد النور.

وإذا أجبرت احدهم على الحديث فانه يكتفي بالقول وبصوت هامس لا يكاد يسمع:

"ان الجو ممطر هذا اليوم".

وتضحك حين تسمعه يقول ذلك، تضحك حد الجنون فأنت تعرف ان ذلك الوقت الذي همس فيه "أبوفلان" هذا كان في عز الصيف، وتسأل نفسك بعد ذلك: إذا كان رب العزة قد خلق الإنسان في أحسن تقويم فلماذا يصر هذا المخلوق لأن يكون في اسوأ تقويم...؟

* القلم السري إدارة موجودة في الوزارات الحكومية ولها فروع في الكثير من الدوائر الرسمية في الدول العربية والتي قد يتغير اسمها من مكان لآخر. وهي ترتبط مباشرة بمدير الدائرة ومهمتها كتابة التقارير السرية عن خصوصيات وعموميات العاملين الذين لا تنالهم الترقية الا بأمر من مدير هذا القلم الذي عادة ما يكون سمينا أصلع الرأس له شعيرات في وسط الرأس فقط ويلبس البدلة السوداء حتى في حر تموز اللاهب.

* أبوداوود شخصية حقيقية كان يعيش في جنوب العراق، مات دون ان يحقق حلمه في ان يكون فلاحا ناجحا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً