من بغداد إلى بيروت إلى دمشق إلى طهران مرورا بأية عاصمة عربية أو إسلامية يمكن لكم أن تضيفوها إلى القائمة ثمة شيء واحد مشترك يعتمل في صدور المواطنين أجمعين. رجاء وتوق شديدان أن يروا تحولا ما أو تفسيرا لما يحصل في بلادهم يدفع بحياتهم اليومية نحو الأفضل في المستقبل ولكن إلى جانب قلق وخوف شديدين من هذا المستقبل غير المعلوم وغير الواضح المعالم. فالوضع سيال في بلادنا ولا يتوقف عن الترجرج والحراك المستمرين.
ثمة قديم يفسد ويتآكل وثمة جديد ينمو ويتفاعل لكن الأيدي التي تعمل على طي صفحة القديم وفتح صفحة الجديد ليست دائما نظيفة وطاهرة وطيبة.
كثيرون في بلادنا ممن انتبهوا مبكرا إلى أهمية التجديد وضرورة التحول والتغيير في أحوال العباد والبلاد. بالمقابل فإن الكثيرين من أصحاب المطامع في بلادنا ممن كانوا ولايزالون يقفون بالمرصاد لأية حركة تغييرية في بلادنا ليصادروها طبقا لمصالحهم ومآربهم وأجندتهم.
المخلصون الوطنيون الضاربة جذورهم في أرض أوطانهم يتمنون حصول التغيير نحو الأفضل بأقل الخسائر الممكنة وأقل الصدمات للنسيج الاجتماعي العام في بلادهم.
أما الطارئون على الأوطان والراكبون لموجات التغيير لمصالح ومنافع أنانية وآنية فإنهم يبحثون عن صفقة هنا أو صفقة هناك تشفي غليلهم وتطفئ عطشهم وتقرب وصولهم لسلطة هنا أو ثروة هناك ولا يهم بعد ذلك أن احترق الوطن أو بيع في المزاد العلني!
الذين شجعوا ويشجعون الأجنبي على التدخل في بلادهم لحسم معركة هنا أو نزاع هناك لصالح مآربهم وأهدافهم الفئوية أو الحزبية إنما يجعلون مهمة التغيير والإصلاح في بلاهم في مهب الرياح العاتية ويدفعون بمواطني بلدهم إلى مزيد من الخوف والقلق من المستقبل المجهول!
أما الذين يعضون على الجرح ويتحملون حتى "ظلم ذوي القربى" وعيونهم شاخصة على الخلاص الوطني بصيغة محلية من صنع أبناء الوطن وعلى قاعدة "أهل مكة أدرى بشعابها" فإنهم يجعلون مهمة التغيير والإصلاح في بلادهم أقل مرارة وأكثر أملا ورجاء!
وكما كان اجتياح القوات الأميركية للعراق بمثابة الزلزال الذي صدع كيان الدولة العراقية ونسيج المجتمع العراقي على السواء، فإن اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان بمثابة الزلزال الذي جعل مشروع الدولة اللبنانية والسلم الأهلي في لبنان على شفير الهاوية أو يكاد!
الذين تعاملوا معه بسطحية ورأوا فيه فرصة للانقلاب على السياق العام الذي كانت تسير به الحوادث في لبنان وظنوا أن الفرصة باتت مؤاتية للانتقام من منافسيهم وخصومهم السياسيين حتى لو أصبح الوطن "المثال" الذي كانوا يتغنون به حتى الأمس القريب في مهب الريح، سرعان ما اكتشفوا أن معادلة الاستقواء بالخارج على الداخل ليست دائما "غالبة" حتى مع وجود اختلال فاضح في ميزان القوى لصالح من يمسك اليوم بمفاتيح التغيير العالمي!
أما الذين تعاملوا مع حادثة الاغتيال الإرهابية بالحكمة وبعد النظر والصبر على الأذى والمضي على خطى التغيير ولكن مع وقف التنفيذ إلى حين أن تنجلي الأمور ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود فإنهم سيظلون هم الغالبون حتى وإن خاصمتهم قوى الغلبة المتحكمة بمفاتيح التحول والتغيير!
التطورات الأخيرة في لبنان أثبتت من جديد لمن كان له شك أو ترديد في صحة المقولة الشعبية الشهيرة في لبنان "ما يصح إلا الصحيح" وبأن بوصلة الجمهور لا تخطئ أبدا عندما يتعلق الأمر بالوطن والمصير. والذين تصوروا للحظة أن لبنان يمكن أن يقلد تجربة جورجيا أو أوكرانيا أو... سرعان ما اكتشفوا خطأ حساباتهم عندما فاجأتهم الحقائق المادية الملموسة على الأرض بغير ما كانوا يتصورون.
المظاهرات المليونية التي شهدتها بيروت تلبية لدعوة الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية يوم الثلثاء الماضي وضعت النقاط على الحروف بخصوص الفرز بين ما هو مطلوب من أجل التغيير والإصلاح الوطني الأصيل، وبين ما يمكن أن يكون سرابا أو وهما مبنيا على حسابات خاطئة أقلها عدم تطابق الداعين إلى ذلك التغيير مع الوجدان الشعبي العام الذي يفترض أنه صاشحب المصلحة الأساسية في التغيير في معيار الأكثرية والأقلية الديمقراطي!
والعبرة لمن يعتبر من درس لبنان قبل فوات الأوان! في العراق هذا الدرس مفيد كما في سورية كما في إيران كما في مصر وكما في السعودية أو أي بلد تقرر قوى أو دول ما بات يصطلح عليه المجتمع الدولي أن تركز عدسات التلفزة العالمية عليه لتجعله هدفا أو بالأحرى "مختبرا" لتجريب مدى نجاح مهمة بناء "الشرق الأوسط الكبير" عليه.
نقول هذا لأن المحافظين الجدد الذين قرروا في الدورة الثانية لجورج بوش الابن أن يختطفوا القرار في "المجتمع الدولي" كما في الأمم المتحدة بعد أن تمكنوا من اختطاف القرار الأميركي القومي لصالح التوسعية الإسرائيلية.
ومن يدقق جيدا في تشابه المهمات في كل الحالات التي قرر المحافظون الجدد وضع اليد عليها سيلحظ تماما كيف أن المطلوب دائما هو نزع سلاح المقاومة أو القدرة على الممانعة من خلال قوى محلية "وطنية" وأن ذلك يجب أن يحصل بطريقة الحرب الأهلية لا محالة.
في العراق على يد الحكومة "المنتخبة"!، وفي فلسطين على يد الرئيس "المنتخب"! وفي لبنان على أيدي المعارضة التي يجب أن "تنتخب"! وججوالديمقراطيات؟
سؤال برسم الجميع يجب تقديم الرد عليه اليوم، اليوم لأن غدا سيكون متأخرا
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 919 - السبت 12 مارس 2005م الموافق 01 صفر 1426هـ