العدد 935 - الإثنين 28 مارس 2005م الموافق 17 صفر 1426هـ

الإبحار وسط بحر الظلمات

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل أكثر من عشرة أيام، وعند عودتي من العمل مساء، استوقفني شاب من الجيران، يسألني رأيي بشأن الاحتفال بالذكرى السنوية التاسعة لما حدث في القرية من تحطيم المأتم الرئيسي، في مثل هذه الأيام من صفر، وتحطيم أكثر من أربعين سيارة. وفي النهار اكتشف الناس تحطيم محتويات المأتم من أنوار ومكيفات هواء وبعثرة للكتب الدينية بما فيها نسخ القرآن الكريم. الحادثة كانت مريعة بكل المقاييس، ففضلا عن تدمير ممتلكات الناس، كان هناك مس بمشاعرهم الدينية. واللوم كله يقع على قانون أمن الدولة آنذاك، فلم تكن هناك محاكمة يمكن اللجوء إليها طلبا للإنصاف ورد الاعتبار أو حتى طلب التعويض.

ولابد من توضيح السبب وراء ما حدث، وهو تعرض صبي لم يزد عمره آنذاك عن الرابعة عشرة، لدورية من دوريات الأمن العام، وحتى الساعة لا يعرف الأهالي هل كان كلاما نابيا أو حركة مستهجنة، ما استفز رجال الأمن فنزلوا ضربا عشوائيا في الناس الغافلين في الشارع، وبعد أن فرقوهم بدأت حملة تكسير لزجاج السيارات الأمامي والخلفي والجانبي، أسفرت عن خسائر أكثر من أربعين سيارة من سيارات المواطنين، غالبهم اكتشف ما جرى لسيارته في الصباح، ولم يعرف سبب هذا العقاب الجماعي.

لك من حكايات الماضي القريب المحزنة، أما اليوم فالعالم من حولنا يضطرب، والعراق يلتهب، ولبنان يجري تسخينه على نار هادئة، بينما سورية وإيران تحت مرمى النار الاميركية، والمنطقة كلها تمر بمرحلة تفكيك وإعادة تركيب، بحسب أجندة أميركية صهيونية واضحة للجميع. فهل يمكن أن ننأى بهذا البلد عن لعبة النار؟

من الواضح جدا للجميع اننا لسنا في معزل عن العالم، ومطالبة جزيرة تعيش وسط محيط متحرك بالإنعزال والسكون التام ليس أمرا ممكنا، مهما أردنا أو تمنينا ذلك، فتلك ضريبة الجغرافيا والتاريخ والسياسة أيضا التي لم تعد أكثر خيوطها بأيدينا، معارضة وحكومات. وما يجري حولنا لابد أن ينعكس علينا شئنا أم أبينا، ولكن العاقل من يحاول أن ينأى ببيته عن الحريق مادامت ألسنة اللهب طالت الجيران.

ومن الشجاعة أن نعترف أننا نواجه مشكلات حقيقية كغيرنا من البلدان، والبلد يعيش اختلافات في وجهات النظر، وتضارب المصالح واختلاف الطرق والرؤى. لكن هناك إجماع على ضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية، وهناك حرص من جميع أطراف اللعبة السياسية على عدم المس بالأمن والاستقرار، فذلك خيار استراتيجي للجميع. وليس من مصلحة أحد التصعيد، وما نحتاجه بعد اربعة أعوام خلت من "أمن الدولة"، هو استتباب قواعد وأعراف وإن كانت غير مكتوبة للعبة السياسية، وأن تحترم الأطراف قواعدها وتعرف حدودها. وليس من المعقول خلط الأوراق، أو التصعيد المفتعل، بحيث ندفع البلد إلى حافة الهاوية كل مرة تبرز على السطح مشكلة أو قضية أو موضوع خلاف.

وإذا كان "أمن الدولة" وراء الكثير من مآسينا وجراحنا الوطنية، إلا أن ما يهددنا اليوم هو بقاء "عقلية أمن الدولة"، التي تستكثر على شعب البحرين العيش حرا من دون قمع أو قوانين تنتهك حقوق الانسان. وهناك متطوعون كثر، ما فتئوا ينكأون الجراح ويثيرون الغبار، ويشككون في النوايا ويستدعون خطاب التحريض الذي وضع قواعده صدام حسين، فقذف الخليج مدة عشرين عاما في أتون المعارك الطاحنة. ومن المفترض أن يرعوي هؤلاء عن غيهم، وينتبهوا إلى ما يقومون به من حملات تحريض وتخوين ستحرق أصابع الوطن.

من الشجاعة الاعتراف بوجود مشكلات تواجهنا في حراكنا السياسي، وهو ما طبع مرحلة العامين الأخيرين من تاريخ البحرين، تذكروا محاولات التضييق على الندوات العامة، وإغلاق نادي العروبة، والتلويح بقانون التجمعات، النسخة الأحدث من قانون أمن الدولة، انتهاء بـ "الاحتكاكات" اليومية في مجلس النواب. مسيرة الجمعة نفسها دليل على وجود مشكلة، وسواء كانت 50 ألفا كما أذاعت "مونتي كارلو"، أو 80 ألفا كما قالت "رويترز"، أو مجرد سبعة آلاف كما قالت مصادر رسمية، تبقى دليلا على وجود مشكلة، وإن تم تحويلها إلى مشكلة أخرى.

إن من الشجاعة الاعتراف بوجود خلافات في وجهات النظر أيضا، والديمقراطية لا تعني أن أوافقك في كل شيء وإلا فأنا خائن للوطن. وحرية الرأي لا تعني أن تفرض على الجميع رأيا واحدا، والوطن ليس قطعة قماش يلفها البعض حول عنقه ويبدأ بسب الآخرين.

ثمانية أعوام مضت لم يسألني الشاب خلالها عن رأيي ولم يسأل غيري، لكنه سألني هذا العام، وكانت نصيحتي له بصدق: دع الجرح يلتئم، وعفا الله عما مضى. فهل هذا ما يحتاجه الوطن في مثل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم... أم المزيد من الحطب و"مقالات الفتنة" وحملات التحريض الجماعي المجنون؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 935 - الإثنين 28 مارس 2005م الموافق 17 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً