العدد 2403 - السبت 04 أبريل 2009م الموافق 08 ربيع الثاني 1430هـ

الأطلسي أو تعارض الهوية مع الوظيفة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بحضور 28 دولة اختتم الحلف الأطلسي دورته السنوية في مدينة ستراسبورغ الفرنسية. وشهد الحلف بمناسبة مرور 60 عاما على تأسيسه مجموعة تطورات أهمها عودة فرنسا إلى مواقعها بعد مقاطعة عسكرية دامت 43 سنة، ومشاركة الرئيس الأميركي باراك أوباما للمرة الأولى بعد تسلمه مهماته في البيت الأبيض، وقيام مظاهرات مضادة تعترض على فكرة الحلف وتطالب بإلغاء دوره بعد أن انتهت وظيفته مع تبخر الحرب الباردة، واعتراض رئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان على انتخاب رئيس الحكومة الدنماركي اندرس فوغ راسموسن لمنصب الأمين العام للحلف بسبب كراهته للإسلام.

التطورات الأربعة تعطي فكرة عن مأزق تحالف عسكري تأسس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تحت سقف سياسي حدد مهماته الدفاعية بمجموعة وظائف أبرزها مقاومة التهديد السوفياتي لأوروبا الغربية وحماية «العالم الحر» من موجات الاستبداد. هذه المهمات بدأت بالتفكك بعد زوال الذرائع والمبررات ولكن الغرب (أميركا وأوروبا) حافظ على منظومة التحالف حين نجح في اختراع عدو جديد مستفيدا من أقوال وأفعال بعض الحركات السياسية الإسلامية.

اختلاق دول الغرب وظائف جديدة للحلف الأطلسي لم يكن موفقا. فالمهمات ليست مقنعة في حيثياتها كذلك كانت تحتاج إلى أدلة دامغة لتأمين الغطاء السياسي الشعبي لترويج دوره في التعبئة الايديولوجية والإعلامية ضد الإسلام والمسلمين.

فشل دول الغرب في إعادة إنتاج الذرائع والمبررات لتعزيز وظائف الحلف الأطلسي في مرحلة ما بعد «الحرب الباردة» أضعف قدرته على التماسك الايديولوجي وأفقده ذاك الزخم المعنوي لتعبئة الشارع ضد عدو وهمي يستعد عسكريا للانقضاض على أوروبا. وبسبب الخلل بين الموقع والوظيفة بدأ الضعف يتسلل إلى الهيكل العام حين أخذت أزمة الهوية تعصف بالدول المشاركة بالحلف. فالاختلاف على هوية الحلف أخذ يتطور سياسيا مع اتساع رقعة الدائرة لتضم تلك الدول التي تهاوت أو تساقطت أو نزحت من «حلف وارسو» وأوروبا الشرقية. وانعطف الاختلاف على الهوية باتجاهات حادة حين بدأت بعض الاتجاهات المتطرفة تبالغ في تهويل الخطر من «فزاعة» الإسلام في إطاريه الكوني والأوروبي.

الترهيب من ايديولوجيا الإسلام تحول في جانب إلى مرض نفسي - ثقافي شجعت عليه قوى عنصرية تكره الغريب والأجنبي وأدى في جانب آخر إلى تشكيل مخاوف مضادة من قبل تركيا والأقليات المسلمة في أوروبا التي وجدت في وظائف الحلف الجديدة محاولة للاختراق والتطويق والعزل.

هذا التعارض المستحدث بين هوية الأطلسي ووظيفته أعاد طرح السؤال بشأن دور الحلف ومهماته السياسية والثقافية. فالسؤال طرحه سابقا الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول في العام 1966 حين اعتبر الفكرة الأطلسية تشكل ذاك الوعاء السياسي لغزو الثقافة الفرنسية. فالجنرال ديغول تخوف من الدور الأميركي وتأثير النموذج الانغلوساكسوني على أوروبا ومستقبلها. وأدى التنافس بين فرنسا وأميركا على القارة إلى توليد تجاذبات انتهت بإعلان الجنرال خروج دولته من الحلف بذريعة حماية ثقافة الفرانكوفون من طغيان الموجة الأميركية التي اجتاحت أوروبا بسبب إنقاذها من النازية وإعادة إعمارها بعد الحرب.

ديغول آنذاك كان يمثل ذاك التيار الخائف على هويته الوطنية الثقافية ودوره الخاص في تكوين مظلة قارية مستقلة عن الهيمنة الأميركية. إلا أن الجنرال الفرنسي فشل في تحويل هواجسه إلى مخاوف أوروبية مشتركة لاعتبارات تتعلق بأمن القارة وضعفها العسكري وحاجتها فعلا إلى غطاء أميركي يفرض ميدانيا ذاك التوازن المطلوب لمواجهة القوة السوفياتية الصاعدة.

هاجس الهوية تراجع الآن في عهد نيكولا ساركوزي الذي أعلن عودة فرنسا عن قرار الجنرال انطلاقا من نظرية «الصداقة» وعدم الخوف من أميركا وثقافتها ونموذجها. وعودة فرنسا في زمن ما بعد «الحرب الباردة» وتراجع حاجة القارة للحلف الأطلسي يشير إلى وجود قناعة أوروبية بأن الزمن الأميركي (النموذج المتفوق) قد بدأ يتلاشى ولم يعد يشكل ذاك التحدي الثقافي الذي ظهر بريقه في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

أمس واليوم

أميركا اليوم لم تعد أميركا أمس. وفرنسا ديغول تختلف عن فرنسا ساركوزي. والاختلاف على الهوية والخوف من طغيان النموذج الانغلو ساكسوني على الثقافة الفرانكوفونية تراجع بعد انتخاب الشاب الأسمر رئيسا للولايات المتحدة.

أوباما في المعنى الثقافي - الديني يشكل ضمانة للهوية الأوروبية ويعطي الحلف الأطلسي وظيفة ليست بالضرورة متوافقة مع مشروع هجومي قادته الإدارة الأميركية السابقة ضد الخطر المزعوم من الإسلام والمسلمين. ومشاركة أوباما أمس مع ساركوزي للمرة الأولى في قمة الأطلسي تعتبر خطوة رمزية لإعادة تجديد وظائف الحلف بعيدا عن هواجس الهوية. لذلك ركز الرئيس الأميركي في خطابه الافتتاحي على شئون أمنية تتصل بالإرهاب (أفغانستان) ومخاطره على أوروبا قبل الولايات المتحدة ومهمات سياسية تركز على التعاون والمشاركة وعدم استبعاد روسيا من الجبهة العسكرية المشتركة.

دعوة أوباما إلى إعادة تعريف الحلف وتحديد وظائفه في ضوء المعادلات الدولية والإقليمية الجديدة أعطت إشارة تطمين لروسيا حين وجهت رسالة لها تطالبها بالعودة مجددا إلى سياسة الموادعة والتفاوض بشأن خريطة طريق تنتهي بنزع الأسلحة النووية بقصد جعل العالم أكثر أمنا.

إعلان أوباما عن الشروع في إعداد برنامج يجعل العالم خاليا من أسلحة الدمار الشامل أعطى قوة دفع معنوية للقوى المضادة للحلف التي تظاهرت في شوارع ستراسبورغ مطالبة بإلغاء الأطلسي وتفكيكه بعد أن اضمحلت مهماته بتلاشي «الحرب الباردة». فالجموع الرافضة تدعم سياسة سحب المظلة النووية من أوروبا ولكنها أيضا ترفض إعادة تعريف الحلف من خلال ابتداع مهمات جديدة لا وظيفة لها سوى اختلاق المبررات لتغطية السباق الخفي على التسلح.

فكرة الإلغاء تبدو مثالية وهي بالتأكيد مستبعدة في أجندات أميركا والدول الأوروبية نظرا لارتباط مشروع الأطلسي بمجموعة مهمات تتجاوز ذاك المفهوم الإطاري الذي تأسس بالضد من الاتحاد السوفياتي. فالأطلسي تأسس سياسيا على ثنائية انقسام أوروبا إلى شرقية وغربية ولكنه تطور زمنيا ليعيد تشكيل مهماته في إطارات ايديولوجية تحاول ضمان أمن القارة الموحدة من الخارج وحماية هويتها من الداخل. وهذه الوظيفة الجديدة أثارت غضب أردوغان حين اعترض شخصيا على انتخاب رئيس للحلف يكره الإسلام أو يدافع عن تيار حاقد على المسلمين.

اعتراض أردوغان أعاد التذكير بتلك المخاوف التي أعرب عنها الجنرال ديغول (الفرنسي الكاثوليكي) قبل أكثر من أربعة عقود من اجتياح الثقافة الانغلوساكسونية للقارة الأوروبية. فأردوغان (التركي المسلم) وجد دولته في موقع التعارض بين الهوية والوظيفة ومدى تأثير التجاذب في المهمات على موقع تركيا وثقافتها في معادلة إقليمية دولية أخذت تتغير في التحالفات والتوجهات.

مشكلة الأطلسي كانت ولاتزال تقوم على تعارض الهوية مع الوظيفة ما يعني أن أزمة الحلف ستبقى قائمة ويحتمل أن يعاد إنتاجها في ضوء اختلاف الأولويات والمهمات التي أعلن عنها أوباما (الرئيس الأميركي الأسمر) بحضور ساركوزي بعد غياب فرنسي طويل.

التطورات الأربعة التي شهدتها ستراسبورغ على هامش قمة الحلف تعتبر إضافات على أزمة متحولة. ساركوزي تجاوز مخاوف الجنرال الفرنسي، وأوباما أعطى مهمات تعوّم تلك الثقة المفقودة بالدور الأميركي في القارة... ولكن المشكلة استمرت موجودة بين هوية الأطلسي ووظائفه. جانب الهوية عبّر أردوغان عنه برفضه انتخاب رئيس للحلف يكره الإسلام. وجانب الوظيفة عبّرت المظاهرات عنه برفضها استمرار مؤسسة الأطلسي بعد أن تجاوز العالم عصر «الحرب الباردة»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2403 - السبت 04 أبريل 2009م الموافق 08 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً