العدد 973 - الخميس 05 مايو 2005م الموافق 26 ربيع الاول 1426هـ

حكاية شاعر

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

دعبل بن عبدالله الخزاعي، إذا بحثنا عن معنى دعبل في قواميس اللغة، فسنكتشف معناها "الناقة القوية"، أما إذا بحثنا عن صاحب الاسم عبر التاريخ، فهو شاعر كبير من شعراء البطولة في تاريخ الإسلام. ومع ذلك فإن صورته التي رسمها له أبوالفرج الإصفهاني تصنع منه رجلا خطيرا ومجرما شريرا. نشأ في أسرة معروفة بالشعر، صور الحوادث التي عاصرها تصويرا رائعا، فكانت أصدق مرآة لمشاعر المجتمع وأفكاره وخلجاته لاهتمامه بالجانب التصويري الذي يترك تأثيرا لدى قارئ شعره.

ولأن شعره اهتم بتصوير الوقائع والحوادث التاريخية، التي لم يألفها معاصروه من شعراء النفاق والرياء والتضليل والملق السياسي، فإنه اكتسب أهمية أدبية وسياسية لدى الباحثين.

على أن من أشهر قصائده المؤثرة، "مدارس آيات"، وهي من عيون الشعر العربي، يصف فيها خلو ديار البيت النبوي الشريف من أبناء محمد "ص"، بفعل المجازر المتتالية عبر قرنين حتى تاريخ إلقاء القصيدة في خراسان في عهد المأمون العباسي. وكان الإمام الرضا "ع"، قد اضطر لقبول ولاية العهد ضمن تلك الفترة التاريخية ذات الملامح الخاصة. ولأن القصيدة كانت تخاطب الوجدان في أقصى أعماقه، بكى الإمام حتى أغشي عليه. وأعطاه صرة فيها عشرة آلاف درهم، فقال: "ما هذا أردت، وإنما جئت لأتشرف بالنظر إلى وجهك". وبالمقابل طلب أن يهبه ثوبا بدلها، فأعطاه جبة من خز.

عندما خرج في قافلة من مرو، قطع عليهم اللصوص الطريق، وأثناء اقتسامهم الغنائم أنشد أحدهم بيتا من قصيدة دعبل:

أرى فيئهم في غيرهم متقسما

فقال دعبل: لمن هذا البيت؟ فأجابه: لدعبل، فقال: أنا دعبل. وأنشدها لهم، فردوا إليه ما أخذوه. ولما وصل إلى مدينة قم، سأله أهلها أن يبيعهم الجبة بثلاثين ألف درهم فأبى، فتربص به قوم منهم فأخذوها منه عنوة، فحلف ألا يبيعها لهم أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه كما واحدا منها.

القصيدة الخالدة المشحونة بطعم الأسى والثورة والكبرياء، ترددت أصداؤها في كل مكان، حتى طلب المأمون أن يسمعها من الشاعر، وأعطاه الأمان ألا يمسه بسوء، لتعرضها للعباسيين بالنقد، ومع ذلك أثرت فيه حتى بكى واخضلت لحيته بالدموع كما ينقل المؤرخون.

هذا الشاعر الأبي، اصطدم بجوقة كبيرة من الشعراء من مقبلي الأقدام ولاعقي الأحذية، ممن بنوا مجدهم الكاذب على المديح وتزييف الحقائق وترويج الأكاذيب. وكان أن تصدى لهم شاعرنا الخزاعي بعنف وقوة انتصارا لمبادئه. كان صاحب عقيدة، وقف يدافع عنها طوال حياته التي امتدت 98 عاما، غير هياب ولا متردد، تشبعت خلالها روحه بقيم العزة والسمو، ووقف ينافح عن دعاة العدالة في عصره. واستخدم الهجاء الصارم سلاحا يكشف به زيف المبطلين وكذب المنافقين، من دون أن يأبه لأصحاب الكروش الكبار.

سئل: لم لا تمدح الملوك؟ فأجاب: "لأن مدحهم إنما هو للطمع في جوائزهم وأنا لا أطمع فيها". وبذلك وضع لنا قانونا كاشفا للمعادلة المصلحية التي تحكم الطرفين: المدح لم يكن حبا خالصا لهم أو تقربا إليهم، وانما طمعا في أموال بيت المال الذي وضعته الظروف مصادفة بين أيديهم. حياة بهذا الغنى والثراء، كان لابد لها من ختام يليق بكبرها، إذ أرسل له والي البصرة رجلا من المرتزقة فطعنه بعكاز مسموم على ظاهر قدمه ليموت من الغد عن 98 عاما. دعبل مضى، ومازال الناس بعد ثلاثة عشر قرنا يسمعون قصيده فتلين أفئدتهم ويحزنون

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 973 - الخميس 05 مايو 2005م الموافق 26 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً