العدد 2405 - الإثنين 06 أبريل 2009م الموافق 10 ربيع الثاني 1430هـ

أستاذي عبدالوهاب المسيري... أفتقدك

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

استغرق الأمر ثمانية أشهر كي أمتلك شجاعة أن أدخل مكتبك.

بعد وفاتك انشغلت بأداء دين لك في عنقي هو أن أشارك في منتديات لمناقشة فكرك وتأبينك (أكاد أسمعك تقول يا سااااتر... لا شك أنها كانت مملة... وتضحك).

ألقيت بحثا كنت قد كتبته قبل وفاتك في ندوة في عاصمة عربية، وتحدثت عنك وسط جمع من الأكاديميين في عاصمة أخرى، كما كتبت عدة مقالات عنك ومقدمة لملف صدر في مجلة عن فكرك.

بعد أن هدأ تراب البكائيات والحزن... أخذت هدنة... وتوقفت. تجنبت النظر لصف كتبك في المكتبة، ولم أستطع زيارة بيتك واكتفيت بمكالمات الهاتف للسؤال عن زوجتك، من بعيد. بعد أن هدأ الموج على السطح صعد الحزن من القاع.

أفتقد جلساتنا الفكرية الممتعة مع جيلي من الباحثين ونقاشنا في القضايا الفلسفية والمعرفية، والتي كان يملؤها بصخبه ونكاته القوية... اليوم لم أعد أضحك على النكات... تفتقد النكات حماسته وضحكته المدوية.

أفتقد سؤالك عني ومعرفتك حالتي النفسية من نبرة صوتي فتقول حين تجدها حزينة: «مالك يا بنت»... وتلح في السؤال لتخفف عني... اليوم أطلب بيتك فيرد صوتك المسجل على آلة الرد... فيزيدني حزنا على أحزاني.

أفتقد مكالماتك وأنت على سفر لتطمئن على سير بحث أو ترتيب لقاء بعد عودتك مع الشباب الباحثين.

أفتقد دعوتك لطلابك وأصدقائك في رمضان لحفل إفطار سنوي كانت تقدم لنا فيه زوجتك الأطباق المصرية والحلوى الرمضانية خاصة «الكنافة» ونسهر بعد الصلاة نتعبد بالمعرفة والنقاش في أمور النهضة... رمضان الماضي لم أفطر عندك... ولم أتناول أية كنافة.

أفتقد دعوتك لنا لنزهة في قارب في عصر يوم ربيعي في نيل القاهرة كي نقضي وقتا إنسانيا تروي فيه ذكرياتك وتسأل بلطف عن أحوالنا وتداعب أطفالنا... الآن أراقب الغروب وأنظر للقوارب في النيل... وأسمع من بعيد صدى نقاشاتنا وصوت أطفالي يقولون: «جدو هابو... جدو هابو».

أفتقد إهداءاتك لي على كتبك التي كنت تكتبها على الصفحة الأخيرة بعد أن تقلب الكتاب وتضحك حين أتناوله وأظل أفتش عن موضع الإهداء كأنها لغز... واليوم تصدر بقية كتبك وأضمها لمكتبتي من دون أن تحمل إهداءك.

أفتقدك ياأستاذي وأبي، يا من كان والدي يناولني سماعة الهاتف حين تتصل بي ويقول: «أبوك على التلفون»... ولا يتردد - وهو أبي - أن يناديك أنت... بها.

أفتقد صوت خفك المغربي وأنت تجرجره على الأرض حين أزورك فأعرف أنك ستدخل غرفة الجلوس التي ملأتها بالكتب واللوحات الفنية والنباتات الخضراء، وأفتقد سخريتك مني حين أطلب القهوة باللبن والسكر فتقول القهوة لا تشرب إلا بدونهما كي تعرفي جودتها... وحرصك على أن تعطيني كل الاهتمام وتنصت ثم نتناقش، وتقدمني لأصدقائك باعتباري مفكرة كبيرة وأنا محض تلميذة لك من خارج تخصصك ومن خارج جامعتك، فتمنحني الثقة وتدفعني لتحصيل المعرفة كي أكون أهلا لتلك الكلمات... وتعلمني كيف أفعل هذا مع تقدم العمر مع من هم أصغر مني سنا من الزملاء والطلاب.

أفتقد دفء تعاملك مع تلميذاتك بالجامعة، وأنت الأستاذ بكلية البنات جامعة عين شمس لكنك أب لكل تلميذاتك، تدعمهن بالكتب بل وبالمال كي تشتري واحدة سيارة تعينها على التوفيق بين حياتها الأسرية وعملها كي لا تنقطع عنه، أو تدس في يد أخرى بضعة آلاف من الجنيهات لتسافر لحضور مؤتمر، أتهمك دوما بالحرص لأن هذا ما يطلقه الناس من أحكام عامة على أهل مدينة دمنهور التي أنت منها فتضحك لأنك تعلم أني أمازحك ولا تتركني أغادر مجلسك من دون هدية من كتاب أو قصيدة شعر صغيرة عنونتها «القمر الأخضر»... قائلا: «كتبتها من أجلك يا ابنتي فكوني هذا القمر الأخضر»... فأتحول لفراشة ملأ أبوها لها الدنيا بالورود... وأراك أنت لتلميذاتك وبناتك... قمرنا الأخضر.

أفتقد جلوسنا في شرفة بيتك وزوجتك تشكو من عدم خلودك إلى الراحة فتبتسم وتدعوها لأن تجلس بجوارك وتداعبها فتزداد غيظا وتزداد أنت لها توددا، فنضحك جميعا... وأفتقد حديثك عن أحفادك وحرصك على أن تكتب قصص الأطفال من أجلهم... ومن أجلنا.

أفتقد دعوتك لي كي ألحق بك وأسرتك في الأوبرا لنستمع لموسيقى عربية، وأفتقد صوت الموسيقى الغربية المنساب في غرفة التلفاز حين تدخلها معي لتريني مجموعة الأفلام الجديدة وآخر لوحة لفنان شاب اشتريتها... لتشجعه.

أفتقد حماستك لدعوتنا في كل مرة يكون هناك فيها عرض للسيرة الهلالية -تلك السيرة الشعبية التي يرويها المنشدون من صعيد مصر- ونشوتك يسقط المنشد جزءا من القصة قُتل فيه البطل فتداعبه وتطلب منه أن يرويها، فيرفض، فتعلمنا أن الحكي الشعبي يرفع من إرادة الراوي لأن القصة إنسانية... وتتحدث في وسط ضجيج القاعة المفتوحة عن فلسفة الإنسان واللغة، ثم تواصل الاستماع في سعادة.

أفتقد زجرك لي حين آخذ مواقف حادة، وابتسامتك حين أوصيك بالشيء نفسه حين تأخذ أنت مواقف، فتلين وتقول عندك حق، وأفتقد أدبك مع المتثاقلين من أهل الإعلام، ومع التنطعيين من أهل الثقافة، ومسارعتك للاستجابة لأي حديث إعلامي لا حبا في الظهور بل شعورا بالمسئولية، وتواضعك حين تكتب على كتبك اسمك غفلا من حرف الدال وتقول إذا لم يكن لما أكتب قيمة فلن تمنحه دال الدكتوراه أية قيمة إضافية... وأنت أستاذ الأساتذة.

أفتقد صوتك الواهن في مرضك، وقوة حديثك في نهاية المكالمة وتأكيدك أنك بخير وتكبت كي لا أقلق، أفتقد تأملاتك عن الحياة وقصصك عن عالم الأدب وفرحتك بصدور كل كتاب كأنه أول عمل لك، وسعادتك بالجوائز التي كنت دوما أكبر منها كما يفرح الطفل بملابس العيد.

يا أستاذي لقد منحت للموت معنى كما منحت للحياة معنى، وتوهجت كما تشتعل الشمعة قبل أن تنطفئ، ولم يمنعك مرضك من السعي لإتمام مشروعات فكرية طموحة والتجوال في العالم لحضور الندوات ودعم الباحثين الشبان في أرجاء العالم العربي والإسلامي من المغرب لماليزيا ومن الولايات المتحدة لجنوب إفريقيا، فتركت ذكرى في كل أرض وعلما ينتفع الناس به.

أنا اليوم جالسة في مكتبك أقرأ... قضيت اليوم أتجول بين الأوراق، وأعيد استيعاب كل تفاصيل المكان.

أزور هذا البيت بعد شهور، لكني أحس بروحك فيه ويمر أمام عيني شريط الذكريات... وأبتسم... وأبكي... وأضحك... وأنظر لصورة لك هنا أو ورقة خطها قلمك هناك.

أفتقدك... هنا...

وسلام عليك حيث أنت...

هناك...

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2405 - الإثنين 06 أبريل 2009م الموافق 10 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 6:28 ص

      ibrahim sharbini

      صدق الكلمات وصدق البر من متعلم ومعلم لأستاذه - ما قرأته نموذج لهذا وندعو الله للكاتبة بأن يبرها طلابها ويرزق الدكتور الجليل رحمة الله له ان يجزيه عنا وعن ما قدم لنا من جهد وفكر ومال في كل مقابلاته على الجزيرة وغيرها وعن موسوعته العظيمة التى قضى 40 عاما من البحث والبذل هو وزوجته العظيمه وتلامذته الافاضل ( مثل الدكتوره هبه - محمد سيف ) وشكرا لكل من عاونهم على هذا الانجاز الكبير وبقية كتب الدكتور التى ستكون دائما مصدر المعرفة الاول بعد القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لمعرفتنا بحقيقة عدونا .شكرا

    • زائر 2 | 3:38 م

      رأيته مرة واحدة

      اكتب تعليقي هذا والدموع تنساب من عيني فهو رحمة الله من مجددي الفكري الانساني

    • زائر 1 | 12:54 م

      نعم

      كان المسيري أستاذ فريدا تفخر به أية أمة ينتمي إليها ، لو كان من الغرب لوضعوه في قائمة أئمة الفكر الإنساني أما نحن فقد كان جند مبارك يضربونه وهو الثمانين من عمره .
      الرجل أكبر مما تعبر عنه الكلمات ، والمقال صادق المشاعر ، شديد التأثير ( لو ذكر المحرمات فيه من سماع الموسيقى ) رحم الله الأستاذ المسيري وأبدله دارا خيرا من دارنا التي نفتقده اليوم بشدة فيها

اقرأ ايضاً