العدد 983 - الأحد 15 مايو 2005م الموافق 06 ربيع الثاني 1426هـ

"خمسة وخمسين" - "ستة وخمسين"...!

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

يبدو أن هناك من يعبث في الظلام على الدوام، يفتش عن كل نقاط الخلاف ليثيرها ويحيلها إلى موضوع مهم، وكلما انتبه الناس من نومهم والتفتوا إلى حبائله التي يسعى جاهدا إلى لفها حول رقبة الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي وانتزعوها، بادر إلى حبك وحياكة خيوط جديدة أكثر سمكا وأكبر تعقيدا.

ولا جدال في أن صاحب هذه الحبائل هو من النوع الذي لا يريد لهذه البلاد الهدوء مطلقا، لذلك نجده يجهد نفسه في التفكير وابتكار القوانين والمشروعات المؤذية للوطن والمواطن على الدوام، ولو أمعنا النظر وسعينا لربط الأمور ببعضها فإننا سنجد أن أصحاب هذا النهج لايزالون يعيشون على زرع بذور الخلاف والاختلاف بين أبناء الوطن الواحد. والغريب أن هذا البعض ينادي ليل نهار بأهمية الإصلاح وتوحيد الصف خلف جلالة الملك للسير قدما في طريق بناء المملكة الدستورية، على غرار الممالك الدستورية العريقة، لكنه لا ينفك يفتش عن كل ما يعطل هذا المشروع، ويسعى دائما وأبدا لتعطيل أي نوع من أنواع المصالحة الوطنية عبر بث روح الفرقة والفتنة.

لقد وصل الأمر إلى حد التنظير للكذب والنفاق السياسي ومن ثم تحويله إلى سياسة استراتيجية تدعي الحفاظ على الأمن، والمحافظة على المشروع الإصلاحي، وما يزيد الطين بلة أن هذا النهج يضرب بجذوره عميقا في صلب المؤسسات الرسمية حتى ليتساءل المرء بمرارة: هل يمكن أن تسير الأمور إلى الأفضل وهذا البعض لا يزال يمسك بسلطات القرار في المؤسسة الرسمية من مفاصله منذ أكثر من ثلاثين عاما؟

ويبدو أن هذا البعض قد رسم استراتيجيته على المدى البعيد حتى أمست مدرسة متماسكة يصعب حلحلتها أو تغيير منهجها وبرامج التدريس الخاصة بها، والتي تخرج كل يوم كوادر لا تقل حقدا وكرها للوطن ولأبنائه عن مدرسيها الممتلئة قلوبهم حقدا، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أمكن تمرير الفكرة الشيطانية القاضية بتجنيس 250 ألف شخص في البحرين على مدى 10 سنوات، كان يجب أن تبدأ في العام 1995 وتنتهي العام ،2005 لولا أن انكشف هذا المشروع قبل أن تتم أهدافه السيئة الضارة بالوطن.

إن مجرد التفكير في استيراد سكان جدد في بلد صغير متواضع الثروة متجانس القيم والتقاليد، هو جريمة في حد ذاتها، ونحمد الله أن هذا المشروع لم يحقق كامل حلمه المزعج، إذ توقف عند الرقم 55 ألفا حسب ما تشير الإحصاءات المعلنة والله أعلم؟

أي دعوة مسمومة هذه التي تحججت بالأمن لتقديم مثل هذا الاقتراح، واعتبرت ذلك نصيحة تقدمها للسلطات العليا في البلاد، وكيف أمكن تسويق هذه الفكرة بدواعي تحقيق التوازن الاستراتيجي بين الشيعة والسنة في البلاد، باعتبار أن هناك فئة من المواطنين مشكوك في ولائهم، وان الحل يكمن في استيراد مواطنين جدد أكثر ولاء! حتى لا تستطيع هذه الفئة أن تنقلب على الحكم وتستفرد به؟

إن شر البلية ما يضحك، ففي الوقت الذي كان الجميع يحذر فيه من خطر زيادة السكان وارتفاع نسبة البطالة في البلاد، إلى الحد الذي ضاعف من مستويات الفقر، كانت هذه الدعوات تلاقي صدى واستجابة لدى البعض، بل وتنزل على أسماعهم كأنغام موسيقية حلوة وجميلة.

أي خدعة هذه التي انطلت على البعض منا، وأي سذاجة فكرنا بها حين استمعنا لمن روج لهذه المكيدة التي كادت أن تودي بالوطن، لولا اللطف الإلهي الذي أنقذنا في اللحظات الحرجة، هل وصل الأمر إلى هذا الحد؟ وهل تغلغل الشك ونمت الريبة بيننا إلى هذه الدرجة، فبتنا نأمن لمن لا نعرفهم ولم نلاقيهم في حياتنا ولو مرة واحدة بمحض المصادفة، ولا نعرف أي شيء عن تقاليدهم ولا طرق حياتهم، في حين يستعصي علينا الوثوق بمن أكلنا معهم التراب وشربنا معهم المر سنوات القحط والجوع؟

انه هاجس كذاب هذا الذي يحاولون تسويقه علينا تحت اسم الأمن، ولن يكون الوافدون الجدد أكثر حرصا على أمن البلاد واستقرارها ممن عاش بها سنين البؤس والشقاء، وعجن بمائها وهوائها وترابها حتى أصبح كنخيل هذه البلاد لا تفرق بين شيعي وسني أبدا، فكلهم أبناؤها بلا استثناء ولا تمييز.

لو أن عين عذاري تنطق لتكلم ماؤها وروى لنا كيف احتضن أجساد أبناء البحرين وداعبها من دون أن يشعر بفارق في الملمس أو اللون أو الرائحة. لو أن أمواج البحر تتكلم لأخبرتنا عن الرجال الأشداء الذين كانوا يتسابقون لإنقاذ أي شخص يسقط من دوار البحر أو التعب الذي أضناه وهم يبحثون عن لؤلؤة في أعماق خليجنا المعطاء من دون تمييز بين شيعي وسني. لو ان قطرات النفط الأولى التي بللت ثياب العمال البحرينيين في أول بئر للنفط تحفر في الخليج فسالت على الوجوه أبناء البحرين فرحة وغبطة وهم يكتشفون الذهب الأسود العام ،1932 لو أنها تتكلم لقالت لنا كيف تعاضدت السواعد البحرينية حتى تحفر تلك البئر من دون تمييز بين الشيعي والسني.

لو أن الرصاص يتكلم والهراوات التي اخترقت أجساد البحرينيين في الانتفاضات المتعاقبة طوال القرن الماضي تتكلم لقالت لنا إنها لم تكن تفرق بين جسد مواطن شيعي وآخر سني، نعم نحن هنا مذ ولدنا معا ثم عشنا معا وسندفن هنا في هذه الأرض التي ضمت رفات آبائنا وأجدادنا، فلماذا يسعى البعض لزرع الشك والريبة بيننا، ويعمل جاهدا على هدم جدار الثقة الذي عمدته السنوات والتضحيات؟

وحين تهدأ الهواجس ويتحرك المخلصون من أبناء شعبنا لوأد مشروع الفتنة وإفشال مخطط التفرقة ونحر الوطن، يضحي الموتورون مأزومين، فيفتشون عن مخرج لأزمتهم التي صنعها الشعب بتلاحمه، وما يلبثون إلا قليلا فإذا هم يعودون بقوانين ما أنزل الله بها من سلطان. كلها تزيد من التنافر بين الحاكم والمحكوم، وتساهم في هدم جدار دولة القانون والمؤسسات التي يسعى الملك لإرسائها في البلاد، ومرة أخرى نجد أنفسنا ندور في حلقة الأمن من جديد؟

قانون ستة وخمسين، الذي صدر في سنوات الإصلاح التي لاتزال في بدايتها، يطرح بنفس يؤكد وقوع الكثير من الجرائم إبان فترة حوادث التسعينات، ثم يوفر غطاء لمن أخطأ في حق البلاد والعباد، أو فتك بأمن الأسرة البحرينية، أو حرم كثيرا من الشباب البحريني من العمل والدراسة والحياة المستقرة، وبحكم القانون يصبح كل من تعدى على الناس أحرارا، يتلذذون بما جنته أيديهم أيام البطش ويتوعدون بالعودة إلى تلك الأيام ويحلمون بها.

إن هذا القانون يطرح علامات استفهام كبيرة من بينها، هل أن كل ما حدث من عمليات اعتقال وقتل وتعذيب كان يتم بموافقة السلطات وبأوامر تصدر عنها؟ وهل أن كل الأشخاص الذين سقطوا شهداء تحت وابل التعذيب كانوا مجرمين، يستحقون القتل؟ ومن أعطى لهؤلاء حق إصدار الأحكام وتنفيذها بعيدا عن القضاء؟ ثم لماذا يتم طي هذه الصفحة على رغم أن آثارها لاتزال باقية؟ المتجاوزون للقانون موجودون، والضحايا موجودون أيضا، حتى أولئك الذي سقطوا في سبيل الوطن وسقوا بدمائهم الزكية الطاهرة أرضه وتربته، لاتزال آثارهم ودماؤهم معلمة على الأرض، ولايزال أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ونساؤهم وأمهاتهم يطالبون بدمائهم!

ولايزال الشعب لم ينس سنوات القهر والكبت سهر الليالي خلف الشبابيك في انتظار زوار الفجر الذين يأتون بلا مواعيد، يفزعون الأطفال ويقلبون البيوت رأسا على عقب، يفتشون عن أية ورقة تافهة لاستخدامها دليل اتهام وإدانة، ولاتزال الطرقات تئن تحت وطأة رجال شرطة مكافحة الشغب وهم يقتحمون القرى واحدة إثر أخرى، ليلقوا القبض على أي شخص يوجد في الشارع أو في البيت، فالمهم أن يعودوا بمتهمين مدانين سلفا؟

لماذا يخرج هذا القانون ولماذا يتشدد البعض له ويوازي بينه وبين قانون العفو العام؟ أليس ذلك مكر مكرتموه في المدينة؟ فهل يعقل أن يتساوى المعتدي والضحية؟ وهل يعقل أن تكون تلك بداية مصالحة على نطاق واسع في البلاد؟ إن المطلوب أن يعرف المواطنون الذين عذبوا وسيقوا إلى السجون زرافات ووحدانا، هل كان وراءها أوامر؟ وكيف صدرت؟ ومن الذي نفذها بشراسة ثم يقدمون إلى المحاكم، فإذا قام القضاء بإنصاف الضحايا جاز أن يصدر عفو في تلك اللحظات، بعد أن يكون معروفا أسماء المتجاوزين للقانون، على أن يبعدوا من الوظائف العامة التي يحتلونها، وألا تترك لهم الفرصة ليسيئوا استخدام السلطة مرة أخرى، مع أهمية تعويض أسر الضحايا وإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع.

نعم هكذا يكون العفو بلسما لجروح الوطن، حين نكف الفتنة ونضع النقاط على الحروف، عندها سيكون الأمن مسئولية الجميع، وسيشعر المواطنون بأنهم مسئولون عن الحفاظ على سلامة الأملاك العامة، وأنهم يعيشون في وطن لا ينقصه عدل ولا تعوزه العدالة، ولن يتسنى لأحد أن يظلم الآخرين لأنه واثق بان هناك من يحميه ويوفر له الغطاء والظهر والسند، هكذا يعود الأمن إلى البلاد والعباد، وهكذا نغلق ملف المعتقلين والأسرى والشهداء والمعذبين.

وهكذا نرسل رسالة واضحة إلى متجاوزي القوانين: لن نحميكم ولن نغفر لكم، وهكذا نرسي مبادئ المواطنة فلا يعود هناك مواطنون مطاردون ومحرومون من حقوق التقاضي، مقابل مواطنين محميين بحكم قانون ما، أو سياسة غير منصفة. أمن الوطن من أمن أبنائه، وليس من خلال التجنيس المشؤوم أو القوانين السيئة الصيت.

دعونا نقولها جميعا، لا لقانون غير منصف، لا يطبق على الجميع، ولا لتجنيس واستيراد شعب جديد يجلب المزيد من الشقاء لشعب البحرين. لأننا أبناء شعب واحد وسنظل كذلك وإن اختلفت انتماءاتنا المذهبية والعرقية، فدعونا نعيش سويا، نفتش عما يجمعنا وننبذ ما يفرقنا ويبعدنا عن بعضنا

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 983 - الأحد 15 مايو 2005م الموافق 06 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً