العدد 991 - الإثنين 23 مايو 2005م الموافق 14 ربيع الثاني 1426هـ

قبائل في مجلس العموم

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

تتهم السياسة والسياسيون في بلادنا بالكثير من السلبيات، ويقارن عادة بين ما يحدث عندنا في الممارسة السياسية، وما يتم في بلاد أخرى متقدمة، وتكون المقارنة في الغالب لصالح العمل السياسي الغربي، ليس ذلك صحيحا على إطلاقه، فالعمل السياسي في الغرب ترتكب فيه الأخطاء الكبيرة، بل ويصل بعض السياسيين الغربيين إلى مستوى من التعاطي السياسي يذكرك إلى حد بعيد بسوية أعمال العصابات.

وفي اليد حالة تقترب من تلك الإشارة، هي حالة جورج غالاوي، وهو السياسي الذي غدا مشهورا في منطقتنا العربية، بعد أن حمل لواء الدفاع عن النظام العراقي السابق في المحافل الدولية، وخصوصا في أوساط الساحة السياسية البريطانية.

في الأسبوع قبل الماضي، نجح غالاوي في الحصول على مقعد له في إحدى دوائر لندن الانتخابية، رئيسا لحزب جديد سماه "الاحترام"، وبسبب كثافة المهاجرين في هذه الدائرة حصل غالاوي على مقعده، بعد أن طرد سابقا من حزب العمل البريطاني، وهجرته دائرته الانتخابية في الشمال البريطاني "اسكتلندا". وبعد أيام قليلة استدعي للشهادة أمام إحدى لجان الكونغرس الأميركي في واشنطن، التي تحقق في موضوع براميل النفط العراقية المهداة من النظام العراقي السابق للمناصرين.

أفردت وسائل الإعلام البريطانية مساحات واسعة لإجراءات التحقيق العلنية، سواء في وسائل الإعلام المقروءة أو المشاهدة، وشن غالاوي في شهادته هجوما قاسيا على كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وسياسييهما، وخصوصا طوني بلير وجورج بوش.

ومن حق غالاوي غير المنازع أن يتهم ويشن الهجوم السياسي، فلسنا هنا بصدد الوقوف أمام حقه أو حقوق الآخرين في القول، ولكن الحديث يحاول أن يجيب على سؤال: هل بعض السياسيين في الغرب جاهزون للبيع والشراء في سوق النخاسة السياسي، على أساس تقديم السعر المناسب؟

تبدو الإجابة على مثل هذا السؤال بالإيجاب للبعض، وليس جورج غالاوي بعيدا عن هذه الطائفة. وحتى لا نرجم في الغيب فإن لغالاوي كتابا يباع في المكتبات عنوانه إن ترجم بدقة "لست الوحيد"، وهو عنوان يحمل أكثر من مغزى خلف الكلمتين "لست الوحيد" فإن قرأته بأنه ليس الوحيد الذي دافع عن النظام العراقي فهذه قراءة صحيحة، وإن قرأته انه ليس الوحيد الذي استفاد من علاقته بالنظام العراقي فهي قراءة صحيحة أيضا.

في هذا الكتاب يشن غالاوي حربا شعواء على مؤسستين، الأولي هي البرلمان البريطاني، الذي يتهم أعضاءه، وهو منهم، بأنهم خراف يقادون بحسب أهواء الرئاسات المتسلطة، ويدعي أنه برلمان "قبلي" فيه من التحالفات القبلية التي تتم الولاءات فيها ليس للفكرة وإنما للشخص أو الأشخاص ذوي النفوذ. أما المؤسسة الثانية فهي مؤسسات الإعلام البريطاني، بما فيها الصحف والتلفزيون. ويخصص جزءا غير يسير من ذلك النقد للمتنفذ روبرت مردوخ، الاسترالي الذي يملك عددا من محطات التلفزيون والصحف، وان بريطانيا بسبب هذه الملكية من الأجانب لوسائل الإعلام "معروضة للبيع". ومن الملاحظ أن أكبر المساحات التلفزيونية والصحافية التي غطت شهادة غالاوي الأميركية ودفاعه عن نفسه، كانت صحف محطات مردوخ بالذات.

غالاوي اشتهر بأنه المسافر الدائم إلى بغداد في السنوات العشر الأخيرة قبل سقوط النظام، كما اشتهر أيضا بأنه الذي رعى ما عرف لاحقا بـ "جمعية مريم الخيرية" "صندوق إعانات مريم" الذي سمي على اسم فتاة عراقية، وجمع في هذا الصندوق، الذي أصبح رئيسه والمتصرف في ودائعه، مبالغ من المال لصرفها على أعمال الخير التي لها علاقة بتقديم المعونة الطبية للأطفال العراقيين الذين يعانون من آثار الحصار، هذه الأموال التي جمعت هي موضوع التساؤل.

حمل غالاوي على كاهله الدفاع بكل الطرق الإعلانية والسياسية عن الوضع العراقي السابق، إلى درجة أنه أجر حافلة من النقل العام البريطاني، تلك السيارات الحمراء ذات الطابقين المشهورة، ليسيرها من لندن إلى بغداد حاملة بضع عشر شخصا من المتطوعين، وكان وقتها الموضوع هو رفع الحصار عن العراق، واشتدت دفاعاته طبعا عندما وجد كثيرا من البريطانيين أنفسهم يعارضون الحرب على العراق، واشتراك بريطانيا فيها، وكان غالاوي هو نجم التجمعات الجماهيرية تلك.

في شهادته أمام الكونغرس، وهنا بيت القصيد، قال غالاوي إنه من أكثر السياسيين البريطانيين الذين وقفوا محتجين ومشاركين في مظاهرات أمام السفارة العراقية في الثمانينات، وكان ذلك للاحتجاج على الحرب العراقية الإيرانية، في الوقت الذي كنتم "الأميركان" - كما قال - تزودون العراق بالصورايخ والغازات السامة، وأيضا بالخرائط العسكرية! ثم استطرد يقول إنه تسلم تبرعات مالية لصندوق إعانات مريم من حكومات خليجية، فلماذا سكتم عن ذلك المال ولم تنظروا إلا في المال المتبرع به من الأشخاص الذين حصلوا على هبات نفطية من الحكومة العراقية؟!

ولكن غالاوي لم يستطع أن يبرر أخذ الجمعية الخيرية مبالغ مجزية من شخص يدعى فواز زريقات، المواطن الأردني الذي استفاد كثيرا من بيع النفط العراقي، وكان نائبا لرئيس الجمعية وهو غالاوي نفسه، في جمعية مريم الخيرية!

بهذه الأقوال يدين جورج غالاوي نفسه، فهو إن كان يردد أن رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، قد خاض في ست سنوات حكم، خمس حروب "هي العراق، يوغسلافيا، سيراليون، أفغانستان ثم العراق من جديد" فالسيد غالاوي قد انقلب على نفسه أكثر من مرة، فانتقل من معاد للحكومة العراقية في الثمانينات، إلى حليف لها بغير منازع في التسعينات وما بعدها، ترى ما هو السبب؟

موقف غالاوي الشخصي ليس مهما في ذاته، بل هو مهم لما يمكن أن يفهم منه من دروس. فالبيئة السياسية الغربية، على رغم ميكانزمات المراقبة والمتابعة والنقد والمساءلة، يمكن أن يفلت من شقوها البعض، كما فعل غالاوي، كان يناصر الدكتاتوريات باسم الحرية، والتقلب في ما بين المعسكرات المتناقضة، ووضع الأموال الناتجة من كل ذلك في صناديق إغاثة، لها إدارة وموظفون وموازنات جارية بحسب الأصول!

صحيح أن النظام الديمقراطي يمكن أن يصحح نفسه، ولكنه إن ووجه بشخصية ذكية، بل قل ماكرة، فإن هذه الشخصية أو تلك الشخصيات يمكن أن تفلت من شبكة المساءلة، حتى لو طردت من الحزب المنتمية إليه، وحتى لو تم التحقيق معها على مستوى لجنة خاصة في الكونغرس الأميركي، إلا أن الخطورة الكامنة أن مثل هذه الشخصيات في العمل السياسي الغربي معروضة للبيع لمن يدفع أغلى سعر، فسرعان ما يعود لها الوعي، كما حصل لغالاوي من معارض لنظام بغداد كما قال، إلى مؤيد له، ويتبنى أفكاره ويبررها.

هذا ما يسمى تأدبا في الغرب بـ "اللوبي" السياسي، الذي تستخدمه الدول والمؤسسات الكبرى لتمرير مصالحها. صحيح أن لوبي غالاوي فاقع اللون، إلا أن الصحيح أيضا أنه قادر على المراوغة، وإقناع البعض تحت شعارات بما هو ليس مقنع للعقلاء

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 991 - الإثنين 23 مايو 2005م الموافق 14 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً