العدد 1008 - الخميس 09 يونيو 2005م الموافق 02 جمادى الأولى 1426هـ

مفكر الدولة

الإمام الغزالي. .. جامع العلوم "3"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لعبت البيئة السياسية دورها في تشكيل وعي الغزالي. فهذا الإمام ولد في فترة انتقلت فيها الخلافة من طور دولة بني بويه إلى دولة السلاجقة. وأسهم هذا الانتقال في توليد تناقضات اجتماعية أنتجت حركات تمرد بالغت في تطرفها السياسي - العقائدي، ورسخت في المقابل قناعات مضادة أعطت أهمية استثنائية لموقع الدولة ودورها المركزي في تأسيس علاقات اجتماعية تحكمها منظومة ايديولوجية "ثقافية" للرد على الحملات والهجمات كانت الخلافة تتعرض لها.

الحاجة إلى الدولة "المركزية" أعطت مشروعية لدولة السلاجقة ومنحتها ذاك الغطاء الشرعي من الخلافة لتركيز علاقات السلطة في القوة العسكرية من جانب وقوة الايديولوجيا من جانب آخر. ونجحت تلك السياسة في تثبيت هيبة الخلافة وتقوية المركز على حساب الاطراف. وهذا الأمر استمر من دون عقبات حتى حين اغتيل الرجل القوي وصاحب الشوكة ألب ارسلان في العام 465هـ "1072م". فحادث الاغتيال لم يعطل المسار العام بل ازدادت وتيرة قوته حين ورث ملكشاه موقع والده. كذلك لم تتأثر الخلافة كثيرا حين رحل القائم بامرالله في العام 467هـ "1074م" بعد حكم دام 45 عاما ويعتبر الاطول في تاريخ الدولة العباسية. فبعد القائم جاء الخليفة المقتدي ليعتمد نقاط القوة تلك التي تأسست في عهد سلفه. فالمقتدي لم يتردد في تقوية شوكة الدولة "المركز" على المستويين: الجانب العسكري "فتوحات وإعادة تثبيت مواقع الخلافة في المناطق التي خسرتها سابقا". والجانب الثقافي "دعم شبكة المدارس النظامية، والرد على الفرق المتطرفة التي كانت تهاجم الخلافة عقائديا أو عسكريا".

وفي سياق هذا التوجه المركزي الذي قادته دولة الخلافة من بغداد نجح السلاجقة في إعادة السيطرة على بلاد الشام، والعودة إلى دمشق في العام 468هـ "1075م". وكذلك نجح السلاجقة بتكليف من الخليفة العباسي في الحاق هزيمة بالقرامطة في معركة الخندق في العام 470هـ "1078م".

هذا في المقلب الشرقي من دولة الخلافة. اما في المقلب الغربي فكانت الديار الإسلامية تتعرض في تلك المناطق الطرفية والبعيدة من مركز الدولة لضربات وهجمات عسكرية من قوات الفرنجة في الاندلس. فحروب الفرنجة في تلك المناطق اطلق عليها تسمية "حروب الاسترداد"، وأدت نجاحاتها المحدودة إلى تشجيع الممالك الأوروبية على التفكير ومن ثم الاستعداد للبدء في الحروب الصليبية "الافرنجية" في المشرق الغربي "ساحل الشام والقدس". وفي وقت كان أداء المركز "بغداد" يتحسن في المقلب الشرقي استطاع الفرنجة التوسع في المقلب الغربي، ونجحوا في اسقاط مدينة طليطلة في العام 478هـ "1085م".

أحدث هذا التقدم العسكري الذي احرزه الفرنجة في الاندلس حالات رعب في دول ملوك الطوائف. ودفع القلق الذي أصاب رؤساء تلك الدول إلى طلب النجدة من دولة المرابطين في المغرب. وبسبب هذه الحاجة العسكرية سيتحول مركز ثقل المواجهة من المشرق إلى المغرب مؤقتا حين يلبي أمير المرابطين القائد العسكري يوسف بن تاشفين دعوة المساعدة مرسلا قواته إلى الاندلس. وتمكن المرابطون بتاريخ 479هـ "1086م" من عبور جبل طارق وانزال هزيمة عسكرية كبرى بقوات الفرنجة في موقعة الزلاقة. وستحدث هذه المواجهة نتائج سياسية مهمة في الاندلس، فهي ستوقف هجمات الفرنجة لفترة وستنهي عهد ملوك الطوائف الذي اتسم بالاقتتال الأهلي وعدم الاستقرار بين الممالك، وأخيرا ستنقل نفوذ دولة المرابطين من مراكش إلى قرطبة. وفي المجموع ستشهد الأندلس فترة استقرار سياسي تقوم على دولة قوية وحدت المسلمين بين ضفتي جبل طارق. وسيطلق هذا الأمر موجة ازدهار على مختلف المستويات منها إعلان دولة المرابطين الولاء السياسي لدولة الخلافة في بغداد تأسيسا على علاقات تقليدية نسجت سابقا في العهد الأموي.

في بغداد بدأ أمر الخلافة يستقر نسبيا، ولعب السلاجقة دور رأس الحربة في الدفاع عن دولة المركز وهذا ما جعل الخليفة العباسي "المقتدي" يتقرب من السلطان السلجوقي ملكشاه عبر المصاهرة فتزوج الخليفة ابنة السلطان في العام 480هـ "1087م" لضمان التحالف وتأكيده سياسيا بعد تلك النجاحات التي تحققت.

في هذا الوقت كان الغزالي في نيسابور يقرأ كتب معلمه الجويني الذي رحل في العام 478هـ "1085م" ويدرس في المدرسة النظامية ويحاور الفقهاء والعلماء ويناقش ويكتب. ففي هذه الفترة عرف الغزالي بعض الشهرة بصفته أحد التلاميذ التابعين والمخلصين لفكر الجويني. إلا ان الأمور ستختلف حين يقرر الغزالي الاتصال بنظام الملك في العام 484هـ "1091م"، فذهب إلى الوزير السلجوقي في معسكره والتقاه هناك فأعجب بعلومه وقدراته الفقهية والكلامية، وكلفه على اثر ذلك اللقاء بتولي التدريس في المدرسة النظامية في بغداد.

بلغ الغزالي آنذاك 34 سنة من عمره وكان في وضع فكري جيد يسمح له بتولي هذا المنصب المهم الذي راهنت الدولة السلجوقية عليه معتبرة اياه محطة ثقافية جامعة تستطيع من خلال الخريجين منافسة جامع الازهر الفاطمي في القاهرة. آنذاك كانت المدرسة النظامية في بغداد تضم 300 طالب علم في مختلف حقول المعرفة. وشكلت تلك المدرسة نقطة مقاومة ايديولوجية "ثقافية" لمواجهة الفرق والرد عليها فكريا. فالموقع مهم ويشكل وظيفة حساسة لسياسة الدولة في مختلف منظوماتها وفروعها. وبسبب هذا الموقع الحساس كانت الوظيفة عرضة للتنافس وكذلك واجهة سياسية للدفاع عن الدولة ودورها.

توجه الغزالي إلى بغداد في العام 484هـ يحمل كتب معلمه الجويني وذاك التكليف الرسمي من نظام الملك بتولي رئاسة المدرسة والتدريس فيها. ومنذ تلك اللحظة سينتقل الغزالي من الحياد الفكري إلى الانحياز، وسيتحول إلى طرف في المعادلة الثقافية وبالتالي إلى هدف سياسي من خصومه العقائديين وتلك الفرق المتطرفة التي لجأت إلى اتباع تكتيكات الاغتيال للتخلص من خصومها. فالغزالي الطالب البسيط وابن العائلة الفقيرة المتواضعة سيوضع من دون ارادته في موقع تصادمي في عقر الدولة ومركزها الثقافي - التعليمي: المدرسة النظامية.

استقر الغزالي في بغداد وتولى التدريس واشتهر كاستاذ ناجح في شرح وتلقين تلامذته اصول الفقه والكلام. وما كادت تمضي عليه قرابة سنة وهو في هذا الموقع المميز حتى جاءت الانباء ناقلة خبر اغتيال صديقه الوزير نظام الملك في طوس "بلدة الغزالي" في العام 485هـ "1092م". آنذاك كان الداعية الاسماعيلي حسن الصباح بدأ في نشر أفكاره وتربية اجيال عليها في منطقة خراسان. وعرف عن نشاط تلك الفرق "الحشاشون" تطرفها الايديولوجي، واستخدامها تكتيك الاغتيال وسيلة للارهاب السياسي والتخلص من الخصوم.

احدث اغتيال نظام الملك حالات هلع، وزرع المخاوف في جهات كثيرة. وعاد القلق ليسيطر من جديد على مناطق الاطراف من احتمال عودة فرق الاغتيالات للظهور في بعض المناطق التي لا يستطيع المركز "بغداد" الدفاع عنها أو الرد عليها عسكريا.

إلى هذا الحادث المرعب حصلت وفاة السلطان السلجوقي ملكشاه "صهر الخليفة العباسي" في السنة نفسها "485 هجرية" وهو الأمر الذي أدى إلى حصول كارثة أعظم حين اندلعت المعارك بين الورثة واخذت دولة السلاجقة تتفكك إلى مراكز قوى متنافسة.

اصيب الغزالي بالاحباط من حظه العاثر. فهو ما كاد يتسلم الموقع الثقافي الذي تمناه حتى اغتيل في السنة التالية صديقه نظام الملك وتوفي السلطان السلجوقي ملكشاه وتفككت دولته التي يعتمد الخليفة العباسي عليها عسكريا لحماية المركز أو لضرب الخصوم والتصدي لحملاتهم وهجماتهم السياسية والفكرية.

إلا أن خيارات الغزالي العاثر الحظ كانت محدودة فهو متردد في مغادرة بغداد، ولا يستطيع العودة إلى نيسابور أو طوس بسبب القلق الأمني وعودة التوتر على جبهات تلك المناطق بسبب الانقسام السياسي بين ورثة الدولة السلجوقية وصعود دور فرق الحشاشين التي احترفت اسلوب الاغتيالات للارهاب والتخويف والتخلص من الخصوم السياسيين.

وبين مغادرة بغداد أو العودة إلى طوس أو نيسابور قرر الغزالي البقاء في منصبه التعليمي في المدرسة النظامية يواصل مهمة الرد على كتب تلك الفرق وتفنيد عقائدها ومذاهبها. فالغزالي الخائف من الاغتيال السياسي على يد خصومه من الفرق قرر الاحتماء في موقعه بحماية الخليفة المقتدي القلق ايضا من التهديدات المحيطة به من جهات كثيرة.

وتحت سقف الخوف وبحماية خليفة متوجس على مركزه استمر الغزالي يمارس وظيفة مفكر الدولة والمدافع عن وظائفها في مواجهة مخاطر أمنية وسياسية وعقائدية بدأت تهب على بغداد من خراسان

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1008 - الخميس 09 يونيو 2005م الموافق 02 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً