العدد 2913 - الجمعة 27 أغسطس 2010م الموافق 17 رمضان 1431هـ

فهْمُ الشعوب... أشكال متنوّعة وسلوك مختلف

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أكثر من ستة مليارات إنسان يعيشون في هذا الكون. ومن الإعجاز أن ينفرد كلُّ واحد منهم بأسمال وجهه الخاص. بعضهم بأسنان مُنفرجة وشارِبٍ مُدَبَّب. وبعضهم بحاجِبيْن أزَجَّيْن وعينيْن دعجاويتيْن أو لوزاويتيْن. وآخر بأنف مستقيم أو مُنفَطِح وهكذا دواليك. ولو أحَلْتُ لأمْهَرِ فنان أن يرسم وجوهاً مختلفة في ملامحها لَعَجِز أن يلامس إبداعه الألف وجه (مُبتَكَر) في أحسن الأحوال.

وأمام هذا التنوّع في الأشكال، تتعدّد النفوس والطباع بالتّماثل مع تعداد البشر أيضاً. وفي أحيان كثيرة (غالِبة) تتشكّل طباع كُتَلٌ من البشر في بقعة جغرافية واحدة بذات الصفات. وقد تعيد هذه الفكرة طبيعة الشعوب ومُكوّنها الثقافي، إلى الحدّ أن يقتنع فيه الكثيرون بأن شعباً ما قد يجترّ صفات آبائه وأجداده ليعيد إنتاجها في واقعه المُعاش رغم مرور مئات السنين، وفي ذلك أمثال عدّة.

وربما عُرِفَ عن الهولنديين، وبالتحديد سكّان العاصمة أمستردام على أنهم أناسٌ حادّي الطباع، وأصحاب لغة مباشرة جافّة لا تترشّق بالدبلوماسية أو اللياقة الأدبية، رغم أنهم الأقرب إلى الفضاء الجغرافي المنفتح، حيث بحر الشمال ولسانه البحري الممتد من عنق دين هيلدر حتى العُمق الهولندي. لكن التنشئة الزراعية الأولى لهذا المجتمع أنبتت عليه صفات ما هو عليه الآن.

وما عُرِفَ عن اليابانيين، أنهم شعب مُستغرق في المحسوس ووسائل الإنتاج، لدرجة أن التقصير تجاه ما يُناط به من عَمَل (أو حتى الإخفاق الإرادي أو اللاإرادي)، قد يقوده إلى التعبير عن امتعاضه وسخطه بالانتحار الفردي أو الجماعي. وقد شَهِدت مع أحد الدبلوماسيين أن مفهوم الفنون والرّسم في اليابان والارتباط بالنظام التوحيدي اللاهوتي حظّه قليل في مجتمع الدولة ومجتمع الناس على حدّ سواء.

وربما لَعِبَ التكوين الوثني وسطوة الماهيانا دوره منذ القِدَم بين اليابانيين في ألا يصبح بناء الهوية هناك صلباً على غرار تجاور الدين والدولة في دول عدّة، أو يُحاكي رواجاً رومانسياً كالذي جرى عند الرومان والأغريق. وهي حقيقة ترجمتها أفعال اليابانيين في الأزمات التاريخية حتى في أوج غارات الكاميكازيا، وما تلا الهزيمة العسكرية للإمبراطور في الحرب الكونية الثانية من موجة انتحار رهيبة بين القادة العسكريين. وهذا كلّه خاضع لمتغيّر التاريخ.

وقد تتكرّر هذه النماذج في أماكن مختلفة من العالم سواء في الشرق المهووس بالفلسفة الهندية والفارسية، أو الغرب الغارق في فلسفة اليونانيين وعصر الأنوار ومناطقتهم. وربما تعددت مداخل ذلك الارتباط ما بين الناس وبيئتهم الجغرافية إلى أسباب أخرى قد تكون اللغة أحد أسبابها على اعتبارها الوسيلة الأم في طريقة التواصل الإنساني كمتغيّر آخر.

وقد استحضر الآن نظرية الإمام الجرجاني في اللغة، عندما انطلق في وصف البنية اللغوية وبيان وظيفتها الإبلاغية في الكلام من خلال الوصف التزامني بين اللغة والتفكير. حيث أصبحت الكلمة المفردة من وجهة نظره لا يمكن أن تكون أدلّ على معناها الذي وُضِعَت له من كلمة أخرى على حدّ تعبير الدكتور جعفر دك الباب. هذا فيما خصّ اللغة.

في متغيّر الجغرافيا، تظهر طبيعة التأثّر ما بين الإنسان وأرضه، وما ينتج عنها من تعبيرات. فحين تكون البيئة الجغرافية صحراء قاحلة، أو مرجة خضراء، فإن البداية تصبح فهم العلاقة الذهنية بين الصوت وما يُشير إليه، ومن فهم المحسوسات وتالياً الانتقال إلى الأشياء المُجرّدة. والأهم من كلّ ذلك هو إنكار الترادف الذي يعكس مرحلة تاريخية قديمة والتي كانت فيها الألفاظ تُعبّر عن المحسوس دون التجريد.

وطبقاً لذلك المتغيّر، فقد تفرض الجغرافيا المحدودة أو المفتوحة نمطاً من التفكير. كما أن عُمقها داخل اليابسة، أو جوارها مع البحر يفرض أنماطاً أخرى من الرؤى. كما أن الأجواء الحارّة أو الباردة هي الأخرى تُلقي بظلالها على ذلك التفكير والسلوك (الدول الإسكندنافية مثالاً). وربّما مكّنت الظروف الجغرافية الباحثين لأن يتوصّلوا إلى مفاهيم اجتماعية خاصّة جداً تخصّ هذا الشعب أو ذاك.

أما فيما خصّ التأثيرات الأخرى على السلوك، فتظهر لنا التأثيرات البشرية على ذهنية الفرد كمُتغيّر جديد. فالتاريخ يُحدّثنا عن أن شعوب أوروبا خلال حروب القرنين الخامس عشر والسادس عشر الدينية تختلف عن ذهنيتهم إبّان الثورات الاجتماعية التي اجتاحت القارة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كما أن الشعوب التي عنَّتتها دول محتلة، باتت تحاكي سلوكيات تختلف عما كانت عليه إبّان الاستقرار السياسي والحرية.

أضِفْ إلى ذلك، فإن الشعب الألماني الذي أسَرَه الرّايخ الثالث تحت مُسمّى النازية، والشعب الإيطالي الذي أسَرته الفاشية الموسولينية لم يكونا في وضع يقبل بأن يستمرّا تحت هذيْن الحُكمَيْن حتى ولو تخلّف الحلفاء في إنهائهما بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية. فالوصل الذي كان قائماً بين الشعبين الألماني والإيطالي بتاريخهما الليبرالي كان يقطع بذلك حَتماً.

فالشعوب الليبرالية التي تجمعها «مشاعر وجدانية مشتركة» على حدّ وصف ستيوارت مِل تحتكم في خاتمة التفكير إلى أن العيش تحت حُكم ديمقراطي يتطلب قيم أخلاقية تتعلّق بمؤسسات دستورية وثقافية ناجزة ترتبط ارتباطاً عضوياً بالتصوّر السياسي الأخلاقي لمفهومي العدل والظلم. وهو ما يجعل تعاطيها مع نُظُم شمولية أمر عصِي على التحقق (راجع مناقشات جون وكوبر وجون رولز حول هذا البحث).

المتغيّر الخامس ضمن متغيّرات التأثير في السلوك هو مُتغيّر الجهل. وهو يتضمّن في حقيقته مسارَيْن متجاورين. الأول أن يكون الجهل كما نُسمّيه نحن، والقاضي بجهل الإنسان بالأشياء، والخاضع لمفهوم الأميّة. والثاني، وهو الجهل بالتّصرف في المعلومة. وما أعنيه هنا ليس المصطلح الأول الذي يُمكن تداركه بالخطط التعليمية المُتّبعة في القضاء على الأميّة، وإنما الحالة الثانية التي هي عَصَب المتغيّر الذي نحن بصدده.

فانتفاء الجهل بالأشياء لا يعقبه إدارك كامل بها؛ وإنما يتطلب الأمر مُعضّدات أخرى كحريّة البوح بتلك المعلومة، وإخضاعها إلى نقاشات جماعية عبر الانطلاق من التشكيك وصولاً لليقينيات البشرية. كذلك، فإن الأمر يتطلب حركة ثقافية عابرة للحدود بغرض التقييم والتقويم النسبي الذي عادة ما يلاحق الفهم البشري. وهو باعتقادي أحد أهم المتغيّرات الحاكِمة للسلوك الإنساني باعتباره ضامن أساس للهوية الثقافية ولآليات الاتصال.

أذكر هذه المتغيّرات وأنا أرصد ملفات متأزّمة في إيران والعراق وعُموم الإقليم. وقد دفعني هذا الأمر لأن أدرك حقيقة أصيلة في قراءة الأحداث، وهي أن واقع اللحظة يُشكّل أكثر الأمور خداعاً في التحليل. لأن قراءة الهوامش، أو ما يُعتبر هامشاً في الشعور هي الأكثر إلحاحاً وعُمدةً لفهم الأشياء وإدراكها.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2913 - الجمعة 27 أغسطس 2010م الموافق 17 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 5:38 ص

      ولا تزر وازرة وزر اخرى

      ولا تزر وازرة وزر اخرى
      صحيح ان الناس حسب بيتهم ولكن من غير المعقول ان يكون شعب ما عاش على طريقة في الحياة ان يكون اولاده مثله
      شكرا

    • زائر 1 | 4:40 ص

      تحية الى الكاتب

      الاستاد محمد
      مقالك اليوم جميل جدا وبه تحليل جديد وراقي . وكعادتك مميز دائما في صفحات الوسط

اقرأ ايضاً