العدد 2926 - الخميس 09 سبتمبر 2010م الموافق 30 رمضان 1431هـ

الدولة حارس المصالح والحريات

جون لوك وفلسفة التسامح (1)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

ولد جون لوك عام 1632م، وتوفي عام 1704م، ومع أنه ارتحل عن هذه الدنيا بعد هوبس بربع قرن تقريباً، فإن سرعة توالي الأحداث، وشدة تأثيرها، كانا كفيلين بأن يجري على يدي هذين المنظرين، ومن واحد إلى آخر منهما، رغم تزامنهما تقريباً، تحول ملحوظ في الفكر السياسي.

كان لوك في العاشرة من عمره حين نشبت في انكلترا حروب داخلية دامت سبع سنين، وكانت هذه الحروب الداخلية ذات جذور ووجوه سياسية واقتصادية ودينية معاً، ورغم أن الوجه الديني كان الغالب عليها بسبب من مشاركة البيوريتانيين، فإن المنتصر الأول في هذه الحرب كان القوة الاقتصادية التي طردت منافسيها من الساحة، بالتحالف مع الملكية، ثم لم يمضِ وقت طويل حتى هيمنت على الحكومة وسخرتها لضمان رأسمالها ومستقبلها.

هذه التحولات الجديدة في أذهان الناس وحياتهم وعقولهم وعواطفهم أدت إلى ظهور تيارات وميول مختلفة ومتناقضة أحياناً. وعبّرت هذه التحولات عن نفسها من خلال فئات أربع، تضاف إلى أنصار الملكية المطلقة والإقطاعيين الذين لم يتخلوا عن طموحهم في استعادة مواقعهم.

ويمكن تصنيف وضع هذه الفئات الأربع كالآتي:

(1) المفكرون الذين لهم نظرتهم الخاصة إلى العالم، ويتطلعون - في ضوء التقدم المدهش الذي حققه العلم - إلى مستقبل يصنع فيه الإنسان، بمعونة العلم والفن اللذين غيرا وجه الحياة تدريجاً، جنة نعيم لا تشوبها العيوب الطبيعية والبشرية، جنة تعكس نتائج الاكتشافات والاختراعات المتزايدة. كانت الأولوية عند هذه الفئة أن يتوسع جو الحرية الفكرية إلى أقصى ما يمكن، فلا يقيد الفكر قيد ولا يحده حد. ومن الطبيعي أن يكون مراد هذه الفئة من الحرية - نظراً لما تحمله الذهنية الغربية من نظرة سلبية إلى العلاقة بين الدين والعقل - التحرر من الدين والقيود الناشئة منه.

(2) التجار وأهل المدن والطبقة المتوسطة الذين بلغوا، بفضل التقدم العلمي والمجازفات الكثيرة، مكانة اقتصادية مرموقة، وراحوا يطالبون بمكانة اجتماعية وسياسية تتناسب ومواقعهم الاقتصادية الجديدة.

وكانت هذه الفئة تحاول بجد إزالة العقبات التي تعترض طريق تزايد الثروة، وتعمل على تكريس الحريات في مجال العلاقات الاقتصادية والمعاملات، وإزالة جميع الحواجز التي قد تعيق حركتها وسعيها إلى مراكمة الثروات في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية، وقيودها وإلزاماتها من جهة، وفي مواجهة الإقطاع الذي بنى قوته على ملكية الأرض من جهة أخرى.

(3) دعاة الإصلاح الديني المطالبون بتطهير الدين من الشوائب الطارئة عليه والمظاهر الشكلية الزائفة، وتحطيم سلطة البابا المركزية، معتقدين أن البابوية، شخصاً ومؤسسات، مسئولة عن الفساد في العالم المسيحي.

(4) ضحايا التمييز والظلم الذين كانوا يعتقدون أن مهمتهم هي السعي لإنقاذ الناس من غل الذل والظلم الذي ضيق عليهم بوجهيه، الكنسي والحكومي. وكان من بين هذه الفئة الأخيرة من ثار باسم الدين، معتبراً ثورته هذه رسالة إلهية، كما كان بينهم من لا علاقة له بالدين أو لم يكن الدافع لجهاده دينياً.

وكان من نتيجة تقاطع المصالح بين مختلف فئات المجتمع وقواه أن تحالفت الفئات الثلاث الأولى الآنفة الذكر مع الملكية وحاولت، من خلال تقويتها، إخراج منافسيها، (الكنيسة والإقطاع)، من الساحة. لكن الفئة الرابعة، رغم اتفاقها مع الفئات المتقدم ذكرها على الوقوف بوجه الكنيسة والإقطاع، كانت ترفض الملكية أيضاً.

ويمكن ملاحظة دور هذه الحوادث وتأثيراتها المتفاوتة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا بوضوح. فما حصل في إنكلترا، عام 1688م، وفي فرنسا عام 1789م، يعكس من وراء النزاعات والتمردات، والضجة واللغط المثارين هنا وهناك، وحدة النهضة، واتفاق جوهر التحول في سائر أنحاء أوروبا، رغم ما يبدو من بعض اختلافات. فما عرف في إنكلترا باسم الثورة العظيمة (Glorious Revolution) وتحقق مع الثورة الفرنسية الكبرى، هما في الحقيقة ثمرتا شجرة تم غرس فسيلها في أواخر العصور الوسطى، وصارت نبتة في القرن السادس عشر، لتثمر في أواخر القرن السابع عشر.

هذا الاختلال الناشئ من الحروب المذهبية، وهذه الاشتباكات السياسية، وما ترتب على الناس من آثار جراءها، أدت إلى نتيجة مفادها أن السبيل إلى إنقاذ ما يشيّد على أنقاض العصور الوسطى وإلى حفظه والدفاع عنه هو ببروز قوة مركزية مطلقة تكون عنوان الأمة وسيادتها، (هوبس مثلاً). والحق أن هذا البرنامج، إن جازت العبارة، كان يحظى بإجماع قوى التغيير كافة، من مفكرين، ومصلحين دينيين معتدلين، ومن طبقات وسطى.

لكن التحولات كانت على درجة من السرعة، ما جعل صرح سياسة هوبس الشامخ لا يفقد جاذبيته بعيد أقل من نصف قرن فحسب، بل إن المعايير التي قاس بها وزان وحلل سرعان ما بدت على غير نسبة إلى الاحتياجات الحضارية المستجدة، والساعية إلى تدعيم قواعدها، فكان من المحتم على ذلك الصرح أن ينهار.

في هذه الأثناء حيث استحكم بنيان الغرب الليبرالي وارتفعت عمارته ظهر جون لوك. شهدت إنكلترا في حياة لوك ثلاثة حوادث مهمة ومصيرية أدت الأخيرة بينها، (أي الثورة العظيمة)، إلى استقرار دائم للحكومة الدستورية التي تعتبر من أهم ركائز سياسة العهد الجديد في إنكلترا.

وقد وضع لوك الأهم من مؤلفاته، رسالتان في الحكومة، بدافع إثبات شرعية ثورة 1688م العظيمة، على حد تعبير لوك، أي الثورة التي أدت إلى مجيء وليم الأورانجي وثبتت الملكية الدستورية.

رسم لوك صورة للنظام السياسي تتناسب مع الحضارة الجديدة - صورة ظلت - رغم جميع التحولات التي طرأت على مسيرة مؤيدي الديمقراطية - الليبرالية، منارة يهتدي بها المفكرون السياسيون.

يقول لاسكي:

«كانت شعارات لوك هي: العقلانية (Rationalism)، التسامح (Toleration)، والحكومة الدستورية...».

أوليس من الإنصاف التسليم بأن شعارات لوك هذه قد تحققت في الواقع، وصارت مبنى النظام الذهني عند معظم أهل الرأي، وأساس الحياة الاجتماعية الغالبة على سائر الاتجاهات والأنظمة الأخرى المقترحة للحياة، وأن الأنظمة الأخرى المخالفة لهذا البرنامج المثلث آلت إلى العزلة والانزواء، وأن الأنظمة الليبرالية الديموقراطية لاتزال تجدد نفسها من خلال التوسع في تأويل الأفكار الرئيسية التي نادى بها لوك؟

«كان إصرار لوك على الحقوق الطبيعية (Natural rights)، والذاتية للأشخاص، في مجالات الحياة والحرية والملكية، انعكاساً للأفكار المعتملة في المجتمع. فالمجتمع كان يريد أن يكون لكل شخص أجر ومكافأة لقاء ما يبذله من سعي وجهد. ولقد دفعت لوك فرضيته الذرية حول المجتمع - حيث يعتبره مجموعة من الأفراد يعيشون بسبب وجود مصالح متبادلة بسهولة - دفعته إلى قبول النظرية القائلة بأن دائرة عمل الحكومة يجب أن تكون محدودة بتلك الصلاحيات التي تركها الأفراد لها. ومن هنا فلقد عرّف الحكومة بأنها هيئة مهمتها الدفاع عن الأفراد الذين ادخروا الثروة بسعيهم».

يتمتع لوك في باب الفكر السياسي الحديث بمقام مرموق؛ فالحركة التي بدأت أواخر العصور الوسطى، وحوّلت الإنسان من مجرى الفكر الماكيافللي إلى مرحلة جديدة من الحياة، ازدهرت مع آرائه. ثم حلت الحضارة الجديدة فضاعفت، بأمل كبير، حركتها نحو المستقبل، مستعينة بالقوة الاقتصادية، وطموح الطبقة المتوسطة. وكان بيان لوك الواضح والجزل مرآة شفافة تعبّر عن نظام اجتماعي وسياسي منسجم تماماً مع روح العصر الحديثة آنذاك

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2926 - الخميس 09 سبتمبر 2010م الموافق 30 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 6:13 ص

      الدولة ورعاية المواطن

      سيادة الرئيس محمد خاتمي تحية طيبة وبعد 00ظلت الدولة مند انبثاقها في اوربا في عصر النهضة هي الركيزة الاساسية في الفكر الليبرالي وفي ثمانينيات القرن العشرن تعرض مفهوم الدولة لهزة عنيفة وتعالت الاصوات مطالبة بتحجيم دور الدولة وحتى الغائه غير ان موجة العنف التي اجتاحت العالم وما صاحبها من فوضى تعالت الاصوات مرة اخرى لاعادة دور الدولة وستبقى الدولة الوطنية هي الراعي لمصالح المواطنيين وفق دستورها 00 وشكرا للرئيس الفاضل خاتمي00

    • زائر 2 | 1:37 ص

      الزائر 1-يجوز هذا الاستخدام في اللغة العربية

      مثل قول الديمقراطية هي صمام الأمان (وليس صمامة) ، بل وخ أوضح من ذلك ، هناك كثير من الشركات تقرأ فيها مدير تنفيذي أو مدير إداري ومن يشغل المنصب هو امرأة يعني مديرة لكن لا ضير في التذكير والتأنيث هنا، وعيدكم مبارك

    • زائر 1 | 12:09 ص

      خطأ إملائي

      الدولة حارسة المصالح.. وليست حارس
      ارجو التصحيح وعيدكم مبارك..

اقرأ ايضاً