العدد 2930 - الإثنين 13 سبتمبر 2010م الموافق 04 شوال 1431هـ

الفتوى حين تُكبّل بأثقال السياسة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كتبت سابقاً عن «تحمّلنا الحَصْرِي» في دفع فواتير العزاء. ما أعنيه بالفواتير هو كُلفة الصراعات والخلافات في منطقتنا العربية، وكيف تتركّز بين ظهرانينا. خَلُصْت (وباختصار شديد) إلى أن أحد أسباب ذلك هو أن بُنْيَة التفكير لدينا تلعب دوراً مهماً في ذلك. ثم خصّصت من العام أكثر لأنتهي إلى دور الدّين المحوري في المعادلة. الإشارة في ذلك كانت حول المقاربة ما بين دول «المنشأ» ودول «التلقّي» فيما خصّ تأثير الأديان الإبراهيمية المُوحِّدَة.

اليوم أسجّل ما هو مُوسّع من الحديث. فاليهودية كأقدم ديانة سماويّة «توحيدية» بدأت في مِصْر (أو كما يُقال في شبه الجزيرة العربية) وركبها التشظّي باعتماد الشّرح الحاخامي الشفهي لنصوص التوراة قبل ظهور التلموذ. وقد أسّس ذلك لظهور سماطَيْن من الطقوس واحد في يهودا والآخر في هيلاس، وبداية صراع الأعراق النقيّة والمشوبة بالدّماء المتعاكسة حين بدأت الشُّرُوح البشرية للتوراة تأخذ حيّزاً في الممارسة الكهنوتية والفردية بالسّواء.

المسيحية وهي ثاني ديانة سماويّة «توحيدية» وأكثرها اعتناقاً من البشر (2.2 مليار) وأوسعها رقعة (120 بلداً من أصل 190) نشأت في العام 27 م. وقد اضطُهِدت في البداية من قِبَل اليهود الذين يُشكّلون الجذر الأساس لها لكنهم أَبَوْا أن يعترفوا بها، ثم اضطُهِدت من الدولة الرومانية ذات البأس الشديد، ثم أصابها الانكسار الأرثوذكسي الشرقي والقديم، ثم تعمّدت بالانشقاق الكبير الذي حصل بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر والذي أدى إلى نشوب حروب طاحنة استمرت لأكثر من قرنين من الزّمان.

الإسلام وهو ثاني أكبر ديانة عالمية اليوم بعد المسيحية ظهر في القرن السابع الميلادي. ورغم أنه وفي بحر عشرة أعوام فقط انتشر الدين الجديد في كامل الجزيرة العربية إلاّ أن انشقاقاً خطيراً حصل بين قيادييه بعد وفاة النبي محمد (ص) أعقب ذلك حروب سياسية دامية، أفضت إلى أن ينقسم المسلمون إلى أكثر من أربعين فرقة أو أكثر. ولأن الحروب كانت تنشب لدواع سياسية ودينية في الوقت نفسه فقد استولَدت هي ذاتها فرَقاً متعددة من المذاهب والملل.

فيما خصّ الديانَتَيْن الأولى والثانية، ورغم أنهما نَشَأتَا في هذا المحيط إلاّ أن انتشارهما بات محدوداً لصالح الإسلام الذي انبسط في رقعة جغرافية امتدّت من الصين وحتى تُخُوم أوروبا، لتبقى بعض الأقليات المسيحية واليهودية هنا وهناك. ولأن الإسلام كدين انشطرت تفسيراته إلى أزيد من أربعين تفسيراً لهم من الأتباع ما لهم، فقد استقرّت هذه التفسيرات وأنصارها على الجغرافيا العربية والإسلامية بشكل خالص. وأصبحت بُقَعٌ مُحددة توسم بهذا المذهب أو ذاك.

وبالرّجوع إلى معارك الإسلام الأولى يظهر مدى تمسّك الأفراد بتفسيراتهم إلى الحدّ الذي جعلهم يقيمونها وازناً ما بين الحقّ والباطل. وعندما تكرّس ذلك الأمر، تحوّلت تلك التفسيرات إلى نصوص مقدّسة رديفة تحتاج إلى قوّة لتثبيتها وتغليبها على غيرها، وهو ما أدّى إلى هلاميّة الحدود ما بين السياسي والديني. واستقرّ الأمر على أن السياسة حامِيَة للدين على أن يكون الأخير زَخَمها ووقودها على طول الخط، الأمر الذي أفضى إلى إفساد العلاقة المُفتَرضة بينهما.

لقد تحوّل لازِم الدِّين بين عشية وضحاها من مبادئ وأصول تحكمها (ولظروف خاصّة) الزَّمَكَانيّة إلى منظومة فقهية وفكرية رجراجة تدور مدار السِّياسة بشكل مُبتَذَل. وعندما لا تستجيب أصوله (الدين) لمتطلّب السياسة يتمّ ليُّهُ بالمقدار الذي يجعله طَيِّعاً ومتوافقاً. لقد جَرَى هذا الاستخدام من أوّل انشطار إسلامي إسلامي غائر في صدر ما بعد الدعوة بدءاً من الجَبْرِيَّة وليس انتهاءً بالحركات الصُّوفيّة التي ورّثت الحكم والجاه للعوائل والأنساب وفضّلتهم على غيرهم.

لقد استخدمت النُظُم السياسية هذا الأمر بشكل قوي. واستُجلِبَت في سبيل ذلك عقول ومجامع علمية لتأدية ذلك الغرض. كانت المهمّة الرئيسية ليس حفظ الدِّين، بمقدار ما هو حفظ للسياسة التي بها سيُحمَى الدِّين كما تأسس قبلاً. في التغليظ والتنعيم، واستخدام القوّة وفي الصُّلح وفي الحرب والمعاهدات كانت الأمور تجري وفق ذلك النَّسَق من الاستخدام.

لكنه ورغم التوظيف المفرط من الأنظمة للدِّين وتفسيراته وتراثه، إلاّ أنه لم يقتصر عليها فقط، وإنما انسحب الأمر على الجماعات والأحزاب التي كانت تعمل وتظهر على يمينها ويسارها. ولأن الأحزاب كانت الأقرب إلى ذوق الجماهير وكذلك الأخيرة بالنسبة للأولى، فقد استثمرت الدِّين كقاعدة عميقة لتفكير الناس وتحديد سلوكهم بشكل أكثر مما كانت تستخدمه الدولة في مواضع مختلفة.

وعندما بدأت الجماهير تتنازل وبشكل جماعي (لكنه طوعي تسليمي) عن حرّيتها في الرأي والتفكير والعمل لصالح زعيم دولة أو حزب فقد اكتملت حلقة الصراع والتعبئة ما بين خصوم السياسة. وبات الطرفان قادرين على استخدام أقصى درجات العنفوان السياسي بأقصى درجات التثمير الديني. وهنا أصبحت المعركة أكثر دموية وأكثر تقديساً وأكثر إصراراً على كسر عظم الخصم.

في ذات التكوين البنيوي للدولة وللأحزاب، فقد كانت أنوية المعارك التي تجري بين الطرفين تجري بين مُكوّناتهما أيضاً. بمعنى أنه وحين تتمّ عملية الإزاحات والتصفيات داخل أجنحة السلطة تكون عَيْنَا الطرفيْن على منبع الزَّخم الديني، وإلى أيّهما سيتم الاصطفاف. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأحزاب وأجنحتها الصُّقُوريّة والحَمَائِميّة.

أمام كلّ ذلك التماهي والاندماج غير الصحيح، فقد أضحت العديد من سمات المجتمع الإثنية والعرقية فرصاً ذهبية للاستخدام السياسي إلى جانب الدِّين. ولأن الانتماءات في العالَم العربي والإسلامي لم تتحوّل إلى هوّيات فردية، فقد استقرّت المعقدات على هويات تتصل بشكل مباشر بإشكالات العِرق والإثنيات والجُدوديّة، وهو ما خَلَطَ الأمور أكثر، وجعلها مُعقّدة، وبالتالي ضمّها إلى حسابات المعارك السياسية التي لا تهدأ.

هذا الأمر يُذكّر بأوضاع أوروبا حين كانت البرجوازية هناك تنافح من أجل إقامة عقيدة رديفة للمسيحية وفق نظرية روسو والقائمة على عبادة الكائن الأسمى. فقد كان الفلاحون والفقراء يخوضون معارك العُروش والجماعات المتحاربة بكلّ قوة. بل إن الحركات السياسية والاجتماعية (كما هو الحال في هولندا وإنجلترا) كانت تقوم على تعاليم مسيحية صرفة بشكل مغلوط. وهو ما أعتقد أن العرب والمسلمين يُعيدون فصوله بشكل واضح.

اليوم تُصبح الحاجة إلى المراجعات السياسية أمراً بالغ الأهمية. فموضوع منع «التسييس الديني» بات أمراً مُلِحَّاً إذا ما أراد العرب والمسلمون بشتى طرائقهم وطوائفهم معالجة قضاياهم بشكل سليم. فالموضوعات والقضايا يُمكن أن تأخذ مسارها الطبيعي نحو الحُلُول إذا ما تُرِكَت في سياقها. أما اختطافها بغرض التوجيه الطائفي والحزبي يعني أنها تغدو أسيرة لظرفها الجديد الذي يُفقدها جوهرها وحتى وظيفتها التي من أجلها تكوّنت

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2930 - الإثنين 13 سبتمبر 2010م الموافق 04 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 8:06 ص

      الفتوى حين تختطف لتُكبّيل حرية صوت المنتخب

      اليوم تُصبح الحاجة إلى المراجعات السياسية أمراً بالغ الأهمية. فموضوع منع «التسييس الديني» بات أمراً مُلِحَّاً إذا ما أراد ـ الشعب البحريني في الانتخابات القادمة ــ معالجة قضاياهم بشكل سليم. فالموضوعات والقضايا يُمكن أن تأخذ مسارها الطبيعي نحو الحُلُول إذا ما تُرِكَت في سياقها. أما اختطافها بغرض التوجيه الطائفي والحزبي يعني أنها تغدو أسيرة لظرفها الجديد الذي يُفقدها جوهرها وحتى وظيفتها التي من أجلها تكوّنت .

    • زائر 1 | 6:39 ص

      شكرا أخي محمد

      بعض تلك التشظيات ليست دين ، إنما تسبيح بحمد هبل (بشري) جديد يملك السلطة والمال والنفوذ وتحف به الطفيليات التي يسيل لعابها وتنتظر ما يلقيه لها مقابل دينها.

اقرأ ايضاً