العدد 2938 - الثلثاء 21 سبتمبر 2010م الموافق 12 شوال 1431هـ

غازي القصيبي والبحرين... قصة حب متبادل

إبراهيم عباس نتو open [at] alwasatnews.com

عين الدكتور غازي القصيبي (الذي رحل في منتصف الشهر الماضي بعد معاناة طويلة مع المرض) سفيراً للسعودية في دولة البحرين العام 1984. كانت هذه الفترة التي استمرت سبع سنوات جزءاً مهماً من حياته الزاخرة في كلٍّ من مجالي الدبلوماسية والإدارة... خدمة لوطنه في الداخل والخارج.

ولد الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي في الأحساء، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، في يوم 2 من مارس/ آذار 1940، الموافق 22 من محرم 1359هـ. ونشأ وترعرع، مع أخيه الأكبر غير الشقيق فهد في البحرين، حيث اشتغل والده بالتجارة، مع تملكه مزارع للتمور وغيرها في الأحساء. وأخواله من المدينة المنورة، وقال د.غازي ذات مرة إن والدته كانت تودُّ تسميته «حسن».

ومثل تسمية الدكتور غازي باسم مديني، فإن له إخواناً أشقاء ثلاثة، أسماؤهم: عادل، وفاروق وحياة، توفوا جميعاً قبله، وأُضرحوا في البحرين. وله أربعة أنجال: يارا، سُهيل، فراس ونجاد؛ تزامل الاثنان الأولان منهم مع أطفالي، في مدارس الرياض الأهلية؛ وتزامل الأخير مع ابنتي في مدرسة ابن خلدون الأهلية في البحرين.


رفاق شقة الحرية

كان د.غازي قد أتمّ دراسته إلى نهايات المرحلة الثانوية في مدارس البحرين... ثم سافر إلى مصر للمرحلة الجامعية الأولى، وكان معه عدد من أبناء البحرين، كان منهم: الشاعر عبدالرحمن رفيع، ورجل الأعمال محمد كانو، والقاضي محمد صالح الشيخ.

ولقد أشيرَ إلى هؤلاء الثلاثة ببعض بنان عند صدور أول رواية للدكتور غازي، «شقة الحرية»، بأنهم ربما كانوا المقصودين برفاق «فؤاد»، الشخصية الأساسية في الرواية. لكني لاحظت أن أحداً منهم لم يقرّ بأي من ذلك. أما د.غازي نفسه، فكان يشير إلى كون الكتاب «رواية»، أن شخصياتها الأساسية الأربعة قد تنطبق على أي من رفاق الدراسة في القاهرة حينئذ، أو كل من رفاق الدراسة الثلاثة أولئك (الذين بالفعل تشاركوا معه في سكناهم في شقة في الدُّقي أو في حي العَتبة خلال دراستهم الجامعية في القاهرة). لكنني لاحظتُ أن كلاً من الأربعة لم يؤكد... ولم يدحض.


شاعر كل الأجيال

لقد لاحظت في البحرين أنه كانت هناك محبة غادقة للدكتور غازي وحظوة في مختلف طبقات وفئات البحرينيين والبحرينيات. كما كان قد عدّ ضمن الشعراء «البحرينيين» في معظم المواقف، وخاصة في كتاب أعده د.علوي الهاشمي، بعنوان: «شعراء البحرين المعاصرون»، فضم الكتابُ 24 شاعراً «بحرينياً»، جاء د.غازي في أوائلهم... بُعيدََ الشاعر إبراهيم العُريّض ومن كان في سنّه.

وقد انتشر حب د.غازي والإعجاب به عبر الجيل الذي نشأ معاصراً له في البحرين، منذ جيله، على الأقل،... جيل أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي. وهذا يمكن اعتباره طبيعياً لمعاصرته، لكني لاحظت أن سُمعته والإعجاب به شاعراً ومفكراً ووطنياً... قد تم توارثها عبر الأجيال حتى بين شباب الأجيال القريبة.

وكمثال واحد لذلك، فلقد كان حينما دعوته حين كنتُ مترئساً لجنة ثقافية في جامعة البحرين، للحضور لملاقاة الطلاب والطالبات وأعضاء هيئة التدريس والعمداء في «أصبوحة شعرية» (أعترفُ بأن مسمى «أصبوحة» كان مما صادفته في البحرين... فكلنا يعلم عن «الأمسيات» الشعرية). وحين وصول د.غازي، فوجئنا ليس فقط بحجم الحضور، بل بامتلاء القاعة الكبرى حتى ممراتها وعتباتها!

وبعد أن قدّمت الضيف ورحّبت به بقراءة أبيات من قصيدة مني، كان مطلعها:

يا مرحباً بأبي سهيلٍ، مرحبا

أهلاً حللتَ.. مُشرّقاً ومُغرِّبا!

بدأ أصبوحته بالرَّد عليّ ببيتٍ كان يحفظه، مازحني به مُعلقاً على أشعاري؛ ثم عبَّر ببعض الطرفات المثيرة والمميزة؛ ثم قال إنه كان قد تلقَّى العديدَ من الدعوات، وإنه لم يلبِّ أياً منها... وإن هذه الدعوة... كانت استثناءً! ثم أردف بأن أعز فترة في حياته كانت خلال أيام قيامه بالتدريس الجامعي.


حظوة خاصة

كما لاحظتُ حُظوة خاصة ومحبة عند أمير البحرين ولدى عموم شيوخها... مثلما بين أدبائها وأعيانها وعموم مواطنيها. ذات مرة، رأيت المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان (والد عاهل البحرين)... وهو يعود القصيبي أثناء وعكة ألمّت به في 1985، وقام شخصياً بزيارته في «مستشفى البحرين الدولي»... قرب مسكن معاليه حينها في قرية المقشع، على طريق البُديّع. كما كان ملاحظاً ملاقاة سمو الأمير الراحل له ببشاشة وحفاوة، أكثر من البشاشة المعهودة منه أصلاً للجميع...

لقد لاحظت مدى «حضور» د.غازي وطيب ذكره وتأثيره في المجالين الشعبي والرسمي، بتقديرين عاليين يتراوحان بين فائق الاحترام من جهة... وبالولع حتى باسم «الدكتور غازي»... وكأنه ظاهرة! ويمكن استعراض ذلك وبأوجه المعايير الموضوعية، شخصاً وتأثيراً بين السفراء السبعة الذين تعرفتُ عليهم... اثنان منهم قبله وأربعة بعدَه.

وكان مما لاحظتُ، عبر السنين، اهتمام د.غازي الدائب الدائم بالبحرين وبشئونها ومتطلبات التنمية فيها بعامة وبصفة متواصلة. فكان هناك الكثير مما شاهدته واستنبطته من وثيق صلاته وحميم متابعته للتنمية والبناء في البحرين حتى وهو بعيد عنها في مختلف المناصب التي تقلدها... في الرياض أو خارجها.

وكان شريكه المباشر في تنسيق وتنفيذ المشاريع البحرينية المرحوم المهندس يوسف أحمد الشيراوي - الوزير السابق للتنمية والصناعة في البحرين. فلقد كان الأخير دائب التواصل مع الدولة السعودية بواسطة د.غازي وأفاد من علاقاته الشخصية معه... أو بحكم عضوية كل منهما في مجلس وزراء بلده... أو مع تشابه التخصص الإداري بينهما أحياناً أيضاً، مثلما حين كان القصيبي وزيراً للصناعة والكهرباء بينما كان الشيراوي وزيراً للصناعة والتنمية.


مشروع الجسر

ولكنّ أوجه التعاون والمشاركة السعودية في مشاريع البحرين لم تقتصر على باب أو ناحية معينة. بل أحسستُ كأنّ المملكة كانت تنظر إلى البحرين، وفيما وراء دور د.غازي، كأنها قطعة من جسدها وتضعها قريبة إلى قلبها. فمن بين مختلف المنشآت الكبيرة العامة فيها... وفيما وراء مشروع الجسر الذي كلف - وقتها - ملياراً ونيّفاً من الدولارات موّلتها المملكة. وكانت شركة «البلاد» السعودية المقاول الرئيس للمشروع... (الذي نفذته شركة بالاست - نيدام الهولندية).

ولقد فهمتُ أثناء إقامتي في البحرين (لتي بدأت بإعارتي من جامعة البترول إلى عضوية هيئة التدريس في جامعة البحرين، ثم مَدّدتها - أنا - فظللت مقيماً بعد ذلك لمدة عقدين من الزمان وسنتين وشهرين ويومين!)... أقول فهمتُ أن مشروع الجسر كانت له جذور قديمة، منذ أيام الملك فيصل، حينما قدمَ صاحب السمو الأمير خليفة بن سلمان - رئيس وزراء البحرين - للقاء جلالته في العام 1969.

وكان ولايزال هناك عدد من مشاريع التنمية والبناء التي ساهمت وتساهم فيها المملكة في البحرين، فكان من ذلك إنشاء الاستاد الوطني (توأم استاد مكة المكرمة الرياضي)، والمركز الطبي بمَشفى السلمانية الملاصق لكلية الطب في منطقة المنامة، وغيرهما. وذلك إضافة إلى تسيير رواتب عدد كبير من الممرضين والممرضات المتعاقدين في المَشفيات، وعدد كبير من المدرسين والمدرسات المتعاقدين في وزارة التربية والتعليم؛ كانت معاشاتهم تصرف من مكتب الملحق الثقافي في السفارة السعودية، قبل وأثناء وبعد فترة خدمة د.غازي سفيراًَ في البحرين. فلم أستغرب مطلقاً أن قام الملك عبدالله منذ أسابيع قليلة خلت بتقديم نحو المليار لبناء مجمع طبي ونحوه في مملكة البحرين.


روابط تاريخية

والذي فهمته أيضاً خلال إقامتي في البحرين ومن خلال قراءاتي، إن السعودية قامت وتقوم بهذه المساهمات... ليس فقط من باب حسن الجوار، أو لتواشج أواصر الصلات الممتازة والمتميزة بين البلدين، ولا حماية للبحرين فقط من الضغوط الخارجية؛ ولا صوناً لاستقلالها (منذ نتيجة استفتاء الأمم المتحدة لشعب البحرين حيال الانضمام إلى إيران كما كانت الأخيرة تطالب... أو الاستقلال، وقد صَوّت شعب البحرين في 1970 لمصلحة الاستقلال)؛ ولا فقط لعضوية البحرين في مجلس التعاون الذي أنشئ في 1981م، بل أيضاً لسبب آخر سابق هو دور البحرين في تأسيس الدولة السعودية الثالثة وإنشاء المملكة العربية السعودية... أثناء قدوم المرحوم الملك عبدالعزيز بن سعود إلى شيخ البحرين قبيل مطلع القرن العشرين وحصوله على دعمَيه الأدبي والمادي... وذلك خلال سيرورة محاولاته لاسترجاع الرياض من ابن رشيد.


اعتذار آخر لحظة!

بعد علاجه في مرضته الأخيرة في أميركا، قضى د.غازي فترة نقاهة في ولاية أريزونا، ثم في منزله في منطقة الجسرَة في غرب مملكة البحرين. وبعد معاودة معالجته في مشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض توفي في منتصف شهر أغسطس/ آب 2010 في الخامس من رمضان 1431هـ.

وهو على سريره الأبيض في ذلك المشفى، أعلن وزير الإعلام والثقافة عن الموافقة بالفسح لنشر وتوزيع كل مؤلفات المرحوم وهي عديدة، وكانت قد نشرت ووُزّعت في الخارج. ولربَّ من عجب في منعها خلال وطيلة خدمته في أعالي المستويات لقرابة نصف القرن، ومثل العجب... كان في فسحها. لكن، لعل ذلك الفسحَ، بعد الحجر على مؤلفاته طيلة عمره كان من باب حسن التختيم...

واعتذار آخر لحظة!

من مثل غازي هات يا أيامي!

من مثل غازي، هات يا أيامي

من صنفه، علماً على الأعلام.

في كل تنمية تجدْه «جبيلنا»

يحدو الصناعةَ... «ينبع» الأحلام (1)

وكذا «الإضاءة» بلْوَرتْ أرجاءَنا

أنوارُها تعلو مع الأيام (2)

و«المَشفياتُ» بناؤُها ودواؤُها

صََرحٌ معلىّ.. بلسمُ الآلام (3)

النثر دارسُه، والشعر فارسُهُ

سيانَ في الأنثار والإنظام؛

قد صالَ في لغة البديع يراعُه

ولدَََى الفرنج.. لسانُ باكنهام (4)

نجمُ السياسة، عالماً ومعلماً

في الجامعات عَميدُها المتسامي

هو في الوزارة والسفارة لؤلؤٌ

في صدر منبره العلي «الدّبلامي» (5)

الجسر واكبه، بدءاً بنشأته

للافتتاح... وكان في الأحلام

انظر وعدّدْ في مناكب أرضنا

تحصى مناقبُه بلا إيهام

هذي المبرةُ للطفولة أنشئت

تسعى لصون الجسم والأفهام (6)

وهو الوفاءُ، وفي الخليج شواهدٌ

محفوفة بالبر والإسهام

وهو الوفيُّ لكل ضيفٍ وافدٍ

وهو القصيبي... مفخرُ الآنام!

@@@@@@@@@@@@@@@@


هوامش

1 - عضو الهيئة الملكية للجبيل وينبع، التي عملت على انشاء عدة مشروعات صناعية في تلكما المدينتين، الأولى في شرق المملكة العربية السعودية والأخرى في غربها؛

2 - وزارة الصناعة والكهرباء؛

3 - المَشفيات= «المستشفيات». اصبح وزيراً للصحة، وكانت آخر وزارة تولاها قبل نقله الى البحرين سفيراً؛

4 - لغة البديع: اقصد هنا اللغة العربية. لغة «باكنهام»: اللغة الانجليزية، إشارة هنا الى القصر البريطاني المعروف، بكنكهام؛

5 - استعملُ لفظة دبلامي كتحوير تجديدي مني، أقصد «دبلوماسي». شغل د.غازي منصب عميد السلك لدبلوماسي في البحرين؛

6 - كان من جملة أعمال الخير التي قام بها د.غازي في فترة عمله في الرياض وقبل مغادرتها سفيرا في البحرين.. إنشاؤهُ مبرة ترعى الأطفال المعاقين، وكانت الأولى من نوعها، وكان لي شرف أن أكون وقتها عضواً مساهماً فيها. وبعد مغادرة د.غازي الى البحرين، تلاه في رئاسة مجلس إدارتها الأميرُ سلطان بن سلمان، رائد الفضاء السعودي، الرئيس الحالي للهيئة العامة للسياحة والآثار.

إقرأ أيضا لـ "إبراهيم عباس نتو"

العدد 2938 - الثلثاء 21 سبتمبر 2010م الموافق 12 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:05 م

      نحن مشتاقين اليك

      كفيت و وفيت يا دكتور . و الملتقى الأهلي افتقدك كثيرا فكنت احد شموعة و الكل يكن لك الحب و التقدير . فلا تبخل علينا يوما بزيارة فنحن مشتاقين اليلك .
      حسن المرزوقي

اقرأ ايضاً