العدد 1040 - الإثنين 11 يوليو 2005م الموافق 04 جمادى الآخرة 1426هـ

المحامي بين دور المهزلة و"الهزار"!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

اعترف أحد كبار المحامين في مقابلة أجريت معه قبل عقدين من الزمان، بأن بداية عمله في سلك المحاماة كانت دفاعا عن أحد السكارى، ألقي القبض عليه في موقع الجريمة، وكان الشاهد الوحيد فردة حذاء! ولعدم وجود شهود من البشر، طلب محامينا العبقري إحضار فردة الحذاء، وهو الأثر الوحيد الذي تركه المجرم في مسرح الجريمة. وكان من حسن حظ المحامي ان فردة الحذاء لم تخنه، وقامت بالواجب في نفي التهمة عن موكله وإخراجه كالشعرة من العجين! إذ اكتشفوا انها أصغر مقاسا من رجل المتهم المخمور، فصدر الحكم ببراءته! المحامي المتباهي بقدرته على إنقاذ حتى السكارى من السجن لم يخف استغرابه بقوله: "لا أدري كيف كان موكلي يلبس حذاءه الضيق..."!

عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في مؤلفه "مهزلة العقل البشري" يرجع نشأة مهنة المحاماة إلى السوفسطائيين، الذين كانوا يدربون تلاميذهم على أن يجادلوا لتأييد أي رأي وتأييد نقيضه في وقت واحد. ويقول: "السوفسطائيون هم أول من وضعوا الأسس لمهنة المحاماة كما هي الآن. والمحاماة في حقيقة أمرها ليست إلا سفسطة على شكل جديد. فالمحامي لا يهمه نوع الدعوى بمقدار ما يهمه المبلغ الذي يحصل عليه... ولا يبالي أن يكون صاحب الدعوى على حق أو باطل، انما يسأله عن المبلغ الذي يدفعه إليه".

ويذهب الوردي المعروف بصراحته الحادة: "يجدر بنا ألا نصدق ما يتمنطق به بعض المحامين من دعاة الحق والحقيقة، فهم كذابون يقولون ما لا يفعلون".

هذا على النطاق المهني، أما إذا انتقل المحامي ليلعب دورا سياسيا غير مؤهل له، فانه يتخبط ذات اليمين وذات الشمال، خصوصا إذا كانت له طموحات "بلدية" أو "برلمانية" تسلقا على ظهور الجماهير. هذه الطموحات تدفعه مرة في اجتماع حاشد إلى الدعوة علنا إلى تفجير "السلندرات" ليلهب أكف المحبطين للتصفيق لعنتريته، فإذا لم يصل لمبتغاه تحول إلى درويش يدور بسبحته على الجوامع يعزف الألحان الطائفية التي تسمم الوطن.

عندما تقرأ تاريخ بلدان الشرق، من شبه القارة الهندية إلى مصر وسورية ولبنان، وكثير من بلدان أفريقيا، تجد كثرة من المحامين لعبوا أدوارا بيضاء في تحرير بلدانهم من الاستعمار وقادوا الشعوب على طريق التحرر والتمدن، أما نحن فيحاول البعض التسلق على رقابنا، تعويضا عن فشلهم الذريع في الفوز بكرسي بلدي أو برلماني، فتراهم مستعدين لحرق البلد من أجل ذلك الكرسي الصغير. المشكلات الكبرى التي يعاني منها الوطن الآن، وسيعاني منها أكثر في المستقبل، أخذوا يدافعون عنها اليوم بحماسة لا تقل عن حماستهم بالأمس في الدفاع عن تفجير السلندرات! التجنيس خارج القانون الذي يعترفون بطائفيته، يدافعون عنه بـطريقة "عنترية" كأن الخطأ لا يصححه إلا خطأ مثله. والمطالبة بتعديل دستوري يتيح للمجلس المنتخب التمتع بصلاحيات أوسع تخرج البلاد من المأزق الحالي، بعد أن وصلت التجربة البرلمانية إلى طور السكون، يعارضها على أساس من أوهام الاضطهاد والتربص بين أبناء البلد الواحد، كأن الوطن لا يمكن أن يعيش إلا بسيطرة طائفة على حساب أخرى!

الديمقراطية التي هي في جوهرها النزول عند حكم الشعب، تتحول عند هؤلاء إلى حالة من الحساسية المفرطة، فـ "الأكثرية ليست كل شىء، والموازين السياسية ليست عدد رؤوس... وأن الأعداد ليست كل شىء". وبالتالي يجب أن تستمر الأوضاع المحتقنة في البلد، ويجب أن لا يحصل أي تقدم في التجربة السياسية بما يتيح المجال لدخول الجميع في اللعبة السياسية، فقط من أجل تحقيق "التوازن" المطلوب!

هذا الفهم الناقص للديمقراطية التي تحقق مصلحة طرف على حساب طرف، دفعت الشعوب الأخرى ثمنها دماء ودموعا، وحروبا طاحنة وصراعات مريرة، ألا يجدر بنا أن نعي الدرس بدل الإصرار على تكرار الدرس بكل تفاصيله المملة القاتلة؟ وهكذا يستمر هذا المنطق السفطسائي العقيم، القائم على المغالطة: من يقف ضد الطائفية فهو طائفي، ومن يقف ضد الفساد فهو مخرب، ومن يعارض التمييز فهو من دعاة الفتنة، ومن يحتج على البطالة فهو باطل...!

أحد المآخذ الكثيرة على هذه الفصيلة من المحامين، ان عقدهم النفسية تنعكس على مفردات خطابهم الملوث، فالشعب في قاموسهم الطائفي ليس "مواطنين" متساوين أمام القانون في دولة قانون متحضرة، أو هكذا يجب أن يكون، وإنما هم مجرد أعداد، "رؤوس"، تذكرنا بـ "نظرية القطعان"، التي ما فتىء وعاظ السلاطين يتناقلونها منذ عهد سيء الذكر الحجاج الثقفي.

لعلمكم الكريم، المحامي العبقري الذي استخدم فردة الحذاء شاهدا لتبرئة السكران، تم تعيينه لاحقا نقيبا للمحامين! ولأن المحامي الجديد المدافع عن "الاعوجاجات الطائفية" في البحرين "مش بوزه" من الكرسي عن طريق الانتخاب، يقال إنه مايزال ينتظر تعيينه على كرسي هزاز... فكل شيء جائز في عصر متلون يكثر فيه "الهزار"

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1040 - الإثنين 11 يوليو 2005م الموافق 04 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً