العدد 1072 - الجمعة 12 أغسطس 2005م الموافق 07 رجب 1426هـ

"عراقات"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التصريحات التي أطلقت في العراق في مناسبة الذكرى الثانية لاستشهاد السيدمحمد باقر الحكيم بشأن قيام إقليم فيدرالي يضم تسع محافظات في الجنوب والوسط تكشف بوضوح عن تلك النتائج الكارثية التي أسفر عنها قرار احتلال بلاد الرافدين وتقويض دولتها. فالتصريحات خطيرة في وقت تتجه الأنظار نحو صوغ دستور موحد للعراق وإجراء انتخابات تمهد الطريق لانسحاب القوات الأجنبية التي أكلت الأخضر وحرقت اليابس.

العراق الآن أمام وضع صعب وشديد التعقيد. فالاحتلال الذي وعد العالم ودول "الشرق الأوسط الكبير" بقيام نموذج ديمقراطي يحتذى في المنطقة انتهى إلى فشل ذريع يرجح انه مقصود. فالنموذج الذي تحدثت عنه أجهزة الاحتلال وادواته كان كاذبا من البداية. والمقدمة الكاذبة تؤدي إلى نتائج كاذبة كما يقول الفقهاء.

إدارة الولايات المتحدة كانت تعلم لحظة اتخاذ قرار الحرب بان العراق دولة مركبة من طوائف ومذاهب وعشائر و"أقوام" تختلف في مناطقها وحتى لغاتها. فالإدارة ليست غبية إلى هذه الدرجة وهي تملك معلومات كافية عن بلاد الرافدين وكلها تشير إلى وجود عناصر مؤتلفة من روافد اجتماعية وقبلية تتفاوت في نسبة تطورها واستقرارها وسلوكها العام. وهذا التنوع "الاختلاط" أشار إليه المؤرخ الاجتماعي علي الوردي مرارا في كتاباته. فالوردي ذكر في تحليلاته عن "الشخصية العراقية" ان موقع بلاد الرافدين الجغرافي شكل على مدار تاريخ الدولة نقطة ضعف في نهوض كيان سياسي مستقر. فالعراق برأي الوردي منطقة جغرافية مفتوحة على الحدود وتتعرض باستمرار لغزوات القبائل والعشائر التي تدخل من جهات مختلفة. وأدى هذا "الغزو المستمر" ولأسباب متنوعة إلى نمو شخصية تاريخية غير مستقرة تجمع ما بين الحضارة والبداوة. وبسبب هذا الخلط "غير المتجانس" والتفاوت في النمو الاجتماعي وعدم الاتصال التاريخي بين مجموعات نزحت واستقرت "توطنت" ومجموعات نزحت حديثا ولم تستقر ومجموعات في طريقها إلى النزوح والاستقرار تأسس ذاك الانقسام السياسي "الحضري" بين المكونات الأهلية للدولة.

لم يقرأ الوردي العراق قراءة طائفية - مذهبية وانما حاول استكشاف تعقيدات الواقع الاجتماعي واضطرابه السياسي المستمر من خلال تركيبه المناطقي - العشائري مستخدما منهج ابن خلدون في تحليل ذاك الاتصال التاريخي بين البداوة "الترحال" والحضارة "الاستقرار". فالوردي عالم اجتماع وليس عالما في الدين ولذلك تجنب قدر الإمكان الانزلاق نحو التفسير الديني "أو الطائفي المذهبي" لتاريخ العراق الحديث. إلا أن قراءة الوردي تبقى من الإشارات المهمة والدالة على وجود خلل بنيوي في شخصية الدولة وتركيبها الاجتماعي وعدم توازنها الأهلي.

الكثير من التحليلات السوسيولوجية "الاجتماعية" تذهب مذهب الوردي "حنا بطاطو مثلا" مع الدخول في تفصيلات أكثر توخيا للدقة في المعلومات التي تكشف أحيانا عن وجود "عراقات" في دولة واحدة.

هذه الحال "المعقدة والمركبة" لابد أن تكون دولة كبرى كالولايات المتحدة على اطلاع عليها. فمن غير المعقول ان تكون دولة تملك كل هذه الإمكانات والمعدات والجيوش والعلماء جاهلة إلى هذا الحد لتدعي لاحقا "وكما هو حاصل الآن" انها لم تكن على بينة لما هو حال العراق حين اتخذت قرار الحرب واحتلت البلاد وقوضت دولتها.

فكرة تقويض العراق "هدم الدولة وتفكيك المجتمع" كانت واردة أصلا في الاستراتيجية الأميركية، بل يمكن القول انها كانت في أصل التخطيط الذي وضعته وزارة الدفاع "البنتاغون" في سياق مشروع زعزعة استقرار "الشرق الأوسط الكبير" لضمان أمن "إسرائيل" والسيطرة على حقول النفط. فالكلام عن "الديمقراطية" أو ما يسمى بواحة السلام والاستقرار والأمن كان مجرد وعود كاذبة لتمرير مشروع كبير يستهدف دول المنطقة ويرمي إلى إعادة تشكيلها "هيكلتها" بما يتناسب مع مصالحها الأمنية والنفطية. وهذا ما بدأ العراق يمر به عن وعي أو من دون قصد. فالوقائع تفرض نفسها في النهاية وما يحصل الآن في بلاد الرافدين هو بداية ترسيم للحدود بين المناطق والطوائف والعشائر والأقوام. والتصريحات التي أطلقت حديثا بشأن قيام إقليم في الجنوب والوسط هو عنوان تلك الاستراتيجية التي رسمت أهدافها عشية إعلان قرار الحرب واستدرجت الأطراف على أنواعها وأشكالها للسقوط فيها. وهذا بداية الغيث

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1072 - الجمعة 12 أغسطس 2005م الموافق 07 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً