العدد 1078 - الخميس 18 أغسطس 2005م الموافق 13 رجب 1426هـ

"خراج" القاضي أبويوسف وضع في عهد هارون الرشيد

قراءة في الكتب الاقتصادية الإسلامية "1"

كتب القاضي الحنفي يعقوب بن إبراهيم "أبويوسف" مؤلفه "الخراج" بناء على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد. وجاء التكليف بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية وتضخم ثرواتها وتضارب الاجتهادات في أوجه انفاقها، فطلب من القاضي ان يضع له كتابا جامعا يعمل "به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي، وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به، وانما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته، والصلاح لأمرهم" "ص 96".

قام القاضي باختصار نهج السلف في التعاطي مع هذه المسائل من بداية الدعوة إلى نهاية العصر الأموي، فبدأ بمقدمة "موعظة" يوضح فيها موضوع العدل في الإسلام وأصول الفقه الاقتصادي ومقاصده الشرعية. فالكتاب، كما ذكرنا، وضع أصلا بناء على سؤال من صاحب الدولة ليسترشد به ويقتدي بسياسات من سبقه، لذلك تميز بالشرح والتفسير لمختلف المراحل واختلاف نهج السلف وتبدله بحسب الظروف والحاجات والمتطلبات.

لم يتطرق القاضي إلى الاقتصاد كنظرية عامة بل تركز بحثه على تبيان الوجه الشرعي لسياسة الدولة المالية "الموارد وانفاقها". وحتى لا يخرج الكتاب عن وظيفته اقتصرت الموضوعات على تحديد مصادر الدخل ودور الدولة في تنظيمها وهو ما يعرف في أيامنا باقتصاد الدولة.

يتحدث القاضي "113 - 182 هجرية" في مقدمته عن ولاية أمر المسلمين والائتمان. فالقوة برأيه في العمل والتقوى حتى لا يسقط بنيان الدولة على الأمة والرعية. وأشار إلى أهمية إقامة الحق. وحذر من الهوى والأخذ بالغضب ونصحه بتغليب أمر الآخرة على الدنيا وجعل الناس "في أمر الله سواء القريب أو البعيد" "ص 97". وولاة الأمر خلفاء في أرضه فالله يجزي "كل نفس بما كسبت" "ص 98". فالرعية لها حقوق ولابد من إقامة الحدود ورد الحقوق إلى أهلها بإحياء السنن "التي سنها القوم الصالحون" "ص 99". ويحذره من الجور لأنه هلاك للرعية، كذلك من استعانته بغير أهل الثقة فهو هلاك للعامة. وأهم ما يجب أن يعمله ولاة الأمر هو الإصلاح ورد الفساد ورفض العمل بالمعاصي حتى يستقيم الخراج "من غير ظلم مسلم ولا معاهد" "ص 100". بعد ذلك يحدثه عن الفارق بين الإمام العادل والإمام الجائر، وضرورة الطاعة والسمع، ورفض الفتنة، والعمل على تغيير المنكر، وضرورة النصيحة لولاة المسلمين.

إلى العدل هناك الحزم فينقل وصية الخليفة الراشد الرابع لامراء الامصار وهي استيفاء ما عليهم من الخراج، وعدم الترخص لهم في شيء، وعدم التهاون أو إظهار الضعف "ص 112".

بعد المقدمة الارشادية يبدأ القاضي كتابه بباب "في قسمة الغنائم" أو ما نسميه اليوم توزيع الثروة. فأخذ بعرض المسألة في عهد الدعوة "الخمس" ثم تعدلت بعد رحيل الرسول "ص".

ويعرض له سنة الخلفاء في العهد الراشدي ثم ما جرى في بعض مراحل العهد الأموي، ويقترح عليه رأيه في المسألة ويترك له الخيار للعمل بما يرى أنه أصلح للمسلمين وأعم نفعا لخاصتهم وعامتهم. فالغنيمة تقسم سواء في أرض العرب أو أرض العجم كالآتي: خمس الخمس من متاع وسلاح وكراع ومعادن "ذهب وفضة ونحاس وحديد ورصاص" يوضع فيه مواضع الصدقات، وما يستخرج من حلية وعنبر "من البحر" يوضع في مواضع الغنائم. ومن أصاب كنزا لا صاحب له فإن في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه "فهو بمنزلة الغنيمة".

وينتقل إلى باب "الفيء والخراج". فالفيء ازداد بعد الفتوحات التي اتسعت في عهد الخليفة الراشد الثاني "بلغ خراج سواد الكوفة وحدها قبل وفاته بعام مئة مليون درهم" وسئل ابن الخطاب عن قسمة ما افاء الله من العراق والشام وطالبوه بقسمة الأرض بين الذين افتتحوها "كما تقسم غنيمة العسكر". فرفض عمر المسألة لأنه لو قسمه بينهم "لم يبق لمن بعدكم شيء" "ص 123". وأبقى الأرض لأهلها وفرض عليها الخراج. وهكذا صار الفيء بين المسلمين جميعا لا يقسمه لهم حتى لا يحرم من جاء بعدهم بغير قسم "فأجمع على تركه وجمع خراجه" "ص 127". ويرى أبويوسف رأي الخليفة إذ فيه "كانت الخيرة لجميع المسلمين، فيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم" "ص 128".

وينتقل إلى باب "القطائع" وتعرف بأرض الصوافي "بلغت في عهد عمر أربعة ملايين" ويقال لها صوافي الاثمار "بلغ خراجها سبعة ملايين دينار" وهي "كل أرض كانت لكسرى أو لأهله أو لرجل قتل في الحرب أو لحق بأرض الحرب أو مفيض ماء أو دير نريد" "ص 168". وتختلف الصوافي عن الخراج فالأولى لا صاحب لها بينما أرض الخراج لأهلها. وكان عمر يقطع من أراضي الصوافي لمن كان له شأنه في الإسلام بينما لم يقطع من أرض الخراج بل فرض على أصحابها الخراج. فالرسول "ص" في عهد البعثة لم يجعل على الأرض خراجا وانما "جعل العشر في السيح ونصف العشر في الدالية لمؤنة الدالية والسانية" "ص 170".

ويتحدث القاضي عن نظام القسمة في العهد الراشدي وتطوره واختلافه إذ كانت في عهد الخليفة الأول بالتساوي ثم صارت في عهد الخليفة الثاني تخضع لنظام تراتبي لا يساوي بين من قاتل الدعوة ومن قاتل معها فبدأ بالأقرب منه وفرض لأهل السوابق والقدم من المهاجرين والأنصار وممن شهد بدرا أكثر ممن لم يكن له أقدمية وسوابق.

بدأت التعديلات التنظيمية في عهد عمر بن الخطاب حين فتحت الشام ومصر والعراق "افتتحت خراسان وشمال إفريقيا في عهد عثمان" وأشار عليه المسلمون بتقسيم السواد والمدن فرفض وقال "فما يكون لمن جاء من المسلمين". فترك الأرض لأهلها وضرب على الناس الجزية وأخذ الخراج من الأرض، وأوقف الأملاك التي لا أصحاب لها ووضعها تحت إشراف الدولة ليعود خراجها لبيت المال. فقبل عمر لم يكن لأهل السواد عهد ولما أخذ منهم الخراج صار لهم العهد "ص 129". وسبب اقدام الخليفة الثاني على خطوته هذه هو خوفه من عدم استثمار الأرض فهي "أرض لا تصلح بها الأبل" وحتى لا تموت تركها لأهلها وأخذ منهم جباية.

لا يفرق القاضي بين أرض السواد وأرض الخراج ولكن "جرت عليها سنة وأمضى ذلك من كان من الخلفاء فرأيت ان تقرها على حالها" "ص 170". فإذا كانت من أرض العشر "أدى عليها الذي أقطعها العشر". وأرض العشر "كل أرض أسلم عليها أهلها" وأرض الحجاز والمدينة ومكة واليمن وأرض العرب "كلها أرض عشر" "ص 171". وكل ما أقطعه الولاة من أرض السواد وأرض العرب والجبال لا يحق لمن يأتي بعدهم ان يرد ذلك، ولا يحق له أن يقطع أحدا من الناس حق مسلم ولا معاهد. فالأرض عنده بمنزلة المال. ويرى أن حق الملكية ضروري لأنه يساهم في تعمير الأرض ويكثر من الخراج. وإذا وجدت قطائع أرض لا اثر زراعة عليها ولا بناء وليست ملك أحد فهي أرض موات "فمن احياها أو أحيا منها شيئا فهي له" "ص 176". ويحق لولي الأمر أن يقطع كل موات وكل ما كان ليس لأحد فيه ملك "أرض معطلة" لأنه في ذلك خير للمسلمين وأعم نفعا.

إلى الملكية الخاصة هناك ملكية عامة لكل المسلمين ولا يجوز التصرف بها، كمثال القاضي عن الفرات ودجلة، فهما "بمنزلة طريق المسلمين ليس لأحد أن يحدث فيه شيئا" يضر بالمسلمين "ص 213".

في كتاب "الخراج" تفاصيل كثيرة يصعب إيجازها لأنها تتحدث عن مالية الدولة الإسلامية وكيف تطورت أنظمتها من الدعوة إلى عهد هارون الرشيد. فالقاضي يفصل الكثير من المسائل وما يجوز شرعا وما لا يجوز. فمثلا لا يجوز تحويل أرض خراج إلى أرض عشر ولا أرض عشر إلى أرض خراج، لأن الخراج صدقة الأرض وهو فيء لجميع المسلمين. ويجوز مال المضاربة لأنه مجهول "لا يعلم ما مبلغ ربحه" كذلك تجوز المضاربة في الأرض، وتجوز المزارعة بالثلث والربع، وتجوز إعارة الأرض واجارتها فيزرعها المستعير ويكون الزرع له والخراج على صاحب الأرض وإذا كانت من أرض العشر فالعشر على الزارع "ص 209". وتجوز المناصفة بين صاحب الأرض وزارعها إذا كانت النفقة والبذر مناصفة، ويكون العشر في الزرع إذا كانت أرض عشر وان كانت أرض خراج فالخراج على صاحب الأرض "ص 210".

ويتحدث القاضي عن اختلاف أنظمة الخراج والخمس والعشر والصدقة والزكاة بين فترة وأخرى بسبب اختلاف المقاييس والأوزان والبضاعة، وإذا ما كانت السلعة تكال أو لا تكال. وتتحدد الضريبة "الجباية" بحسب أنواع الخضار والفواكه والحنطة وغيرها. فمثلا ما يخرج من البحر من حلية وعنبر فعليهما الخمس اما غيرهما "فلا شيء فيه". فالسمك لا خمس عليه ولا يجوز بيعه في الماء. اما العسل فعليه عشر إذا كان في أرض عشر، ولا شيء فيه إذا كان في أرض خراج أو في الجبال والكهوف وعلى الأشجار فهو بمنزلة الثمار لا خراج عليه ولا عشر. ويتحدث القاضي عن نظام الصدقة والجباية وصولا إلى التفاصيل الدقيقة والصغيرة. فالعشر أو الخمس أو الخراج يؤخذ من كل شيء يؤكل أو له ثمن ومنفعة. فهو مثلا يؤخذ من الجوز واللوز والبندق والفستق وأشباه ذلك لأنه يكال. بينما لا يؤخذ في القصب والحطب والحشيش والتبن والسعف، عشر أو خمس أو خراج. اما قصب السكر ففيه عشر إذا كان في أرض العشر وخراج إذا كان في أرض الخراج لأنه مما يؤكل وان لم يؤكل فله ثمن ومنفعة. اما النفط والزئبق فليس فيهما شيء نعلمه "أكان في أرض عشر أو في أرض خراج" "ص 185".

عموما حرص القاضي في كتابه ان يظهر للرشيد عدل الخلفاء وعدم تكليف الناس ما لا يطيقون أو تحميل الأرض ما لا تطيق، فهم مثلا اعفوا الضعفاء والأرامل وبعض ذوي الرزق المحدود من الجباية، وأوصوا بأهل الكتاب وألا يكلفوا فوق طاقتهم، وقاموا بتنظيم خراج أرض الخراج وعشر أرض العشر بحسب الموارد والمنفعة والفائدة.

شكل كتاب "الخراج" نقطة تحول في العهد العباسي وبات أحد أبرز المراجع لقراءة التاريخ الاقتصادي للمسلمين وتطور تفكيرهم واجتهاداتهم في مختلف القطاعات الإنتاجية والاستهلاكية ودور الدولة في ضبط التوازن بين مصادر دخلها وانفاقها العام.

*الجمعة المقبل قراءة في كتاب "الخراج" لابن آدم الذي وضعة في أيام المأمون

العدد 1078 - الخميس 18 أغسطس 2005م الموافق 13 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً