العدد 2962 - الجمعة 15 أكتوبر 2010م الموافق 07 ذي القعدة 1431هـ

فيلم القائد الخالد والرئيس العظيم والجنرال الشاب

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

نَمْذَجَت كوريا الشمالية فشل الشيوعية الستالينية كـ «حُكم» بامتياز. فمع انحسار التروتسكية المنادية بالشيوعية العالمية تَشَظَّت تجارب الشيوعية القائمة إلى مِلَلٍ ونِحَل إلى أن بَرهَنَت على فشلها المُريع في إدارة الدولة ما خلا الصين التي حوّلت نَمِرَها الورقي إلى نَمِرٍ بأنياب وفكٍّ يلتهِم. كما أن تحوّل الأحزاب الشيوعية «الأوربية» إلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية، وقاها عدوى الوقوع في فخّ الاستغراق في الأيديولوجيا والفردانية إلى حدّ التُّخمَة.

خلال حكمها الاتحاد السوفياتي جَعْجَعَت الشيوعية الستالينية بالدولة إلى نقطة صِدَامٍ حضارية وسياسية وعسكرية بالاتّكاء على موارد الأرض وخيراتها، حتى بَادَت بعد أن سَادَت. وعندما تقاسمت (الشيوعية الستالينية) أوروبا مع الرأسمالية بعد الحرب الكونية الثانية، بارَت تجربتها في النظم السياسية «الأوروبية الشرقية» إلى الحدّ الذي جعل عامين فقط كفيليْن بأن تنهار تلك الأنظمة ويُعدَم قادتها وكأنها جُدُرٌ كارتونية لا تقوى على فعل شيء.

وعندما حَكَمَت كمبوديا حاولت أن تترشَّق بامتهان «الأيديولوجيا النقيّة» فانزلقت في الصراع مع الداخل حتى تحوّلت إلى صخرة كَأدَاء على صدور الناس تحت عنوان «الشيوعية الأغراريّة» فقتلت أزيد من مليوني إنسان تحت عناوين الهندسة الاجتماعية والاتهام بالعمالة. لقد كانت تلك التجارب البائسة والدموية مادة دسمة لتثوير الشعوب المرتهِنة تحتها من قِبَل الغرب طيلة سنين الحرب الباردة، وربما كانت تلك أنجعها وأقلها كُلفة بالنسبة للغرب.

اليوم، تُطالعنا الأخبار في بيونغيانغ على أن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ ايل قد ورّث ابنه الأصغر و»السّمِين الجسم» كيم جونغ أون مقاليد البلاد والعباد. 24 مليون كوري شمالي «يشرّفهم خدمته بصفته قائدهم» حسب تعبير يانغ هيونغ سوب، عضو المكتب السياسي للجنة المركزية في الحزب الشيوعي الحاكم ونائب رئيس البرلمان. إنها حقاً مهزلة بامتياز.

«مملكة» جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (الشمالية) أصبحت في يد عائلة القائد العظيم. منذ العام 1948 عندما تولّى كيم إيل سونغ الجدّ الذي حَكَمَ كوريا الشمالية ستة وأربعين عاماً. ثم جاء ابنه كيم جونغ إيل في العام 1994 والذي يحكم البلاد لغاية الآن (ستة عشر عاماً). واليوم يأتي الجنرال الشاب الحفيد كيم جونغ أون ليُكرّس حكم العائلة المُبجّلة والمحبوبة بعد أن مُنِحَ أربع نجوم عسكرية على كتفيه دُفعة واحدة، ليتلاءم ذلك مع عديد المناصب العليا في الحزب والدولة التي سيُكلّف بها، بعد خابَ ظنّ أبيه في نجله الأكبر كيم جونغ نام الذي تمرّد على مبادئ عائلته «ودولتهم»، واختار العيش الاختياري في الصين.

بالتأكيد يجب الفصل هنا ما بين الحَيْف الذي وَقَعَ على كوريا الشمالية بفعل العقوبات الأميركية الظالمة وما بين قراءتنا لداخلها ولحكمها. وهو فصل واجب وضرورة في التقويم. فأي إخفاقات قد يتورّط فيها الاقتصاد الكوري الشمالي هي إخفاقات خارجة عن مسؤولية الحكم هناك، ولربما كانت ستتحوّل تلك الإخفاقات إلى إنجازات لو تُرِكَت بيونغيانغ وشأنها.

لكن ذلك لا يمنع من القول أن الحُكم هناك هو استبدادي قهري دموي يَرْهِن شعبه ويُغذيه بالديماغوجيا المُملّة صباح مساء. استعراضات عسكرية مُستمرّة يُحسَن تنظيمها بشكل قاتل. ألقاب ونعوت تُنثَر على قيادته الحالية والمنصرفة بلا حدود. الرئيس العظيم (الحالي). القائد الخالد (السابق). الجنرال الشاب (القادم). القيادة الحكيمة تُحقّق النصر. وذوبان المجموع بقضّه وقضيضه في الآحاد. وكأن الكوريين الشماليين يعيشون ثورة بلشفية.

من حقّ القادة الكوريين الشماليين أن يحكموا بلادهم حتى ولو بقبضة حديدية لحفظ الأمن من الاختراق الاستخباراتي الأميركي والياباني والكوري الجنوبي. لكن الأهم هو ألا تتحوّل تلك القبضة إلى توريث حُكْم، أو تعطيل لتنمية، أو العضّ على سياسات سالبة وإلى علاقات عازِلة، لا تُنتج تداول سلمي في السلطة حتى ولو على مستوى الحزب الشيوعي الكوري الشمالي الذي يحكم البلاد منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.

عليهم أن ينظروا إلى محيطهم القريب. سنغافورة بلد صغير الحجم وليس له موارد ولا حتى تاريخ ولا مشتركات، وتتحكّم فيه الثقافة الأمنية والبوليسية بشدّة، وليس فيه حرية مدنية ولا صحافة حرّة ولا أحزاب فاعلة كما يجب لكنه لم يستغرق في الاستبداد الحاجب للتنمية والتطوّر. بل أصبح بلداً يُقاس بالعالَم الأميركي والأوروبي الأول وبالدول الصناعية.

الصين، وهي من ذات الرّقعة الفكرية التي تنتمي إليها كوريا الشمالية وبقيّة الجوقة الشيوعية، آلت على نفسها إلاّ أن تتحوّل من أسطوانات ماو إلى ما يتناسب وواقعها اليوم حتى تحوّلت إلى دولة ترتكز على مصالحها الوطنية سواء جاءتها من الوعاء الشيوعي أو الرأسمالي أو حتى غيره. بل باتت اليوم دولة «مَخشِيّة» من الغرب أكثر من أيّ وقت مضى حتى حينما كانت الماويّة في أوجها والثورة الزراعية تهزّ الدنيا. كيف لا وهي الدائن الأول لأعظم اقتصاد عالمي (الولايات المتحدة).

روسيا التي تداركت نفسها بالخروج من ماخور بوريس يلتسين، أصبحت وبعد فلاديمير بوتين قوّة ضاربة في الشرق دون أن تعتمد على شيوعيتها السابقة. فالدولة تستطيع أن تُصبح حاضرة قوية وذات نفوذ من خلال اقتصادها وعلاقاتها الخارجية وجسورها نحو الجغرافيا القريبة، وتعقيد مصالحها مع الدول، والاشتراك في منظومات الأمن الإقليمية والدولية.

من غير المعقول أن تعتمد كوريا الشمالية اليوم على قطار مُدرّع بسبعة عشر عربة يُقِلّ الرئيس العظيم كيم جونغ ايل من نقطة داندونغ في إقليم لياونينغ شمال شرقي الصين إلى داخل بكّين ثم يعود به بعد أيام مُحمّلاً بالأدوية والمواد الغذائية والوقود. فالدول لا تُدار بآحاد الناس ولا بالعلاقات الخارجية اليتيمة، وإنما بالشراكة وتعدد الحلفاء وتقليل الخصوم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2962 - الجمعة 15 أكتوبر 2010م الموافق 07 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:12 ص

      فالدول لا تُدار بآحاد الناس ، وإنما بالشراكة وتعدد الحلفاء وتقليل الخصوم.

      فالدولة تستطيع أن تُصبح حاضرة قوية وذات نفوذ من خلال اقتصادها وعلاقاتها الخارجية وجسورها نحو الجغرافيا القريبة، وتعقيد مصالحها مع الدول، والاشتراك في منظومات الأمن الإقليمية والدولية. فالدول لا تُدار بآحاد الناس ولا بالعلاقات الخارجية اليتيمة، وإنما بالشراكة وتعدد الحلفاء وتقليل الخصوم.

    • زائر 1 | 11:21 م

      بهلول

      هل كان حكام كمبوديا فعلاً يقومون بالتخلص ممن يطالب بالإصلاح ... تحت عناوين الهندسة الاجتماعية والاتهام بالعمالة !!؟؟

اقرأ ايضاً