العدد 1104 - الثلثاء 13 سبتمبر 2005م الموافق 09 شعبان 1426هـ

إله المياه العذبة يستصرخكم!

أحمد البوسطة comments [at] alwasatnews.com

عندما انتهيت من القراءة الأولى لكتاب "إشكالات البيئة والتنمية في البحرين"، وهو من إصدارات جمعية العمل الوطني الديمقراطي، ومن تأليف الباحث عبدالحميد عبدالغفار، اقشعر بدني وتقافزت أسئلة "الاتجاه المعاكس" وخواطر ذكرتني بملحمة جلجامش لعلها تستنطق التاريخ، وكم تمنيت أن يصحى "إنكي" - إله المياه العذبة - ليرى أخطبوط الظلم وتدمير البيئة ماذا يفعلان في "بحرين اليوم من حضارات دلمون وتايلوس وأوال". يقال وبحسب الوثائق المسمارية وأجزاء مدونة عشتار في التشريع الذي كشفته بعثة تنقيبات جامعة بنسلفانيا في مدينة نفر بجنوب العراق، إنه بفضل المياه أصبحت دلمون وطن جلجامش بطل هذه الأسطورة التي ارتبطت بالآشوريين في بابل. وجلجامش الذي كان يبحث عن زهرة الخلود في جزر البحرين، حيث المياه العذبة والوفيرة في البحر وعلى اليابسة، وهكذا أصبحت دلمون ذات قدسية عند السومريين والبابليين والآشوريين، وأصبح عندنا نحن البحرينيين شغف قراءة هذه الملحمة، وعرفنا منها أن "أنكيدو" معارض لجلجامش، وإن تاريخ البحرين القديم ارتبط بالمياه والخضرة وثرائها البيئي والبحري وعلى اليابسة وحضارات إنساننا القديم. آه، لو تعلم يا "إنكي"، يا إله المياه العذبة، إن كل العيون الطبيعية على اليابسة في أوال قد اختفت مع اختفاء ثلاثة وثلاثين كوكبا في قاع البحر في ظاهرة مؤلمة، ليس للبحارة فحسب، بل لكل مرتادي البحر في "كشتة" كانت أو للصيد أو للتسلية، ولم يعد بمقدور أحد أن ينزل إلى قاع البحر ليشرب مياهك العذبة يا "إنكي"، ولم تعد البحرين بحرين، بل أصبحت بحرا واحدا كثير الملوحة، من دون مياه لا للشرب ولا للاغتسال عن ملوحة مياهه، ولم تعد "الساية" ساية بكواكب مياهها العذبة، كما لم تعد "ججوس" جسوس؛ صحيح بإمكان الإنسان مشاهدة أنابيب المياه العذبة مرفوعة فوق سطح البحر بججوس، لكنها من دون قطرة ماء تروي عطش ظمآن. كانت أوال وادعه تغفو وتصحو في البحر وعلى اليابسة على مياه عذبة في عصر فجر السلالات القديمة يغتسل أهلها بمياهها ويسبحون في عيونها الطبيعية فأصبحت عذاري الآن تصرخ: أين الماء؟ وكذا كوكب الشيخ وعين السفاحية وعين الخضرة في النبيه الصالح ردموها كلها عن بكرة أبيها، ولا تختلف عين "أم اشعوم" و"عين الرحا" و... و... وسمي ما شئت من العيون التي تعرفها وارتبط تاريخنا بها وقد "حل الغراب بها"، و"إذا حل الغراب ديار قوم ... فما على أهلها إلا الرحيل". وبحسب مجلة سياحية ترويجية، كانت أوال تسمى باسم جزيرة اللؤلؤ تجاريا، وكانت عاصمة العالم في إنتاج وتجارة اللؤلؤ حتى النصف الأول من القرن الماضي، وكان اللؤلؤ محور الحياة في هذه الجزيرة والمناطق المجاورة، وكان جميع أهل البحرين يستفيدون من هذه الثروة القومية، ويعملون فيها، فقامت صناعة القوارب وإصلاح السفن، كما ظهر الكثير من البيوت التجارية الكبيرة، وظهر أيضا فروع لمصارف عالمية، وارتبط اسم البحرين وأهلها بمراكز عالمية، فأصبحت معروفة في أسواق لندن وباريس ومومبي في الهند، بسبب صناعة واستخراج هذه الدرر البحرية الثمينة. وجعلت هذه المجوهرات من البحرين مركزا تجاريا مهما في وسط دول مجاورة تعتمد على الزراعة والرعي، بل كانت البحرين منطقة هجرة وعمالة لكثير من المغامرين من شبه الجزيرة العربية والهند، والذين كانوا يسافرون إلى البحرين ليعملوا في صيد واستخراج اللؤلؤ من قاع البحر الغني بهذه الثروة.

نهاية مؤلمة

كانت صناعة المجوهرات والعقود الثمينة من اللؤلؤ هي المنافس القوي للألماس الإفريقي، في التشرف بتملكه ولبسه كعقود أو فصوص في الخواتم، فقد كان اللؤلؤ من مقتنيات أصحاب الثروات وأصحاب السلطان والملك، إلى أن انتصف القرن الماضي. في ذلك الوقت، طورت اليابان صناعة اللؤلؤ وجعلت زراعته بكميات كبيرة أمرا ممكنا في مزارع خاصة، وتقلصت قيمة اللؤلؤ كمجوهرات نادرة، ليصبح من المجوهرات المتوافرة للجميع وبأسعار متهاودة جدا. وأصبح العقد الذي كان يساوي عشرة آلاف دولار يباع مثيله من لؤلؤ مزارع اليابان بمبلغ لا يزيد عن مئة دولار. وعلى رغم أن اللؤلؤ المزروع صناعيا لا ينافس المستخرج طبيعيا في الجودة والنقاء واللمعان، فإنه كان البديل المنافس والذي أقبل عليه الناس، والفرق بينهما لا يعرفه سوى الخبراء، على رغم أن النقاء والصفاء هي من علامات اللؤلؤ الطبيعي، بينما يختلف اللون قليلا في اللؤلؤ المزروع.

اللؤلؤ والمجتمع

كان لصيد اللؤلؤ واستخراجه أثر كبير في تشكيل الحياة في البحرين، بل إنه جزء من تراثها الشعبي، فالشعر والأدب البحريني غني جدا بأدبيات اللؤلؤ وقصص المغامرات والمغامرين فيه والمتاجرين به، بل إن تماثيل وتحف المحارات وأشكالها كانت تمثل الفنون البحرينية. وأصبحت كل هذه الذكريات مسجلة في أدبيات البحرين، وفي متاحف عدة في البحرين تستهوي الزائر لها. ولايزال كبار السن يسجلون ذكرياتهم عن أيام مضت، ولايزالون يقدمون خبراتهم للأجيال الحاضرة، ولكن ليس لتعلم المهنة للعمل بها، فهي لم تعد مربحة أو تحقق عائدا ماليا يكفي لتغطية العيشة الكريمة، ولكن للاحتفاظ بها كجزء من الثروة الثقافية والتجارية والتاريخية التي كانت تشكل لهم حياتهم، وتلونها بلون البحر واللؤلؤ.

العدد 1104 - الثلثاء 13 سبتمبر 2005م الموافق 09 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً