العدد 1133 - الأربعاء 12 أكتوبر 2005م الموافق 09 رمضان 1426هـ

علب في برادة النفس

جعفر الديري comments [at] alwasatnews.com

ليس كلاماً منمقا ولا عبارات فضفاضة ربما ظنها البعض كلمات للعبث. ولكنها كلمات تخرج من ألم لايزال حياً ينبض بالمأساة. نعم انها كلمات دافعها الألم الى حد المأساة، وإلا فمن يستطيع نكران مقادير هذا الزمن الأعوج حين أحال مشاعر الناس إلى علب مخزنة في برادة النفس، لا تتأثر بتقلبات الجو ولا بعوامل التعرية؟

فلننظر إلى أنفسنا ولنتساءل: ألم نتحول إلى أعواد ريح بالية، إلى مجرد عصي لا تحس ولا تشعر؟! ألا يمر علينا شهر رمضان المبارك فلا تنفحنا أنفاسه الطاهرة ولا تستنشقه أنوفنا ولا يغمرنا بألطافه وروحانيته؟!

«إنكم بلا إحساس»، قالها شيخ عجوز كان يصلي في المسجد فانتبذت مكاناً ورحت أتامل في كلامه. إنه شيخ طاعن في السن. يصلي ويصلي ويقرأ القرآن وأدعية الشهر الكريم حتى إذا تعب جسمه المنهك تناول شيئاً من التمر أمامه وشرب كأس ماء وهو يسبح الله ويقدسه وعاد مجدداً إلى عبادته في رحاب ربه. نظر إليّ مجدداً وقال كلمته للمرة الثانية: «إنكم بلا إحساس». ولم يتكلم أكثر. إنه يعني ما يقول، إنه يرانا نحن أبناء هذا الجيل لا نحس ولا نشعر وهو الرجل الذي ملأ حب الله كيانه فحوله إلى شكل آخر. ولكن لسنا وحدنا من أصبحنا بلا شعور، إن غالبية الناس أصبحوا بلا شعور. وكأنه سمع ما أقول فالتفت إليّ وآثر الكلام: «كلكم على طريق واحد. حواليكم النور ولكنكم تصرون على العمى، انظر إلى تلك المأذنة».

نظرت إلى المأذنة كانت تتلألأ بأنوارها من خلال نافذة المسجد. إنها ساكنة في خشوع ونسيم عليل يداعبها. والتسبيحات تصل إلى ذهني كأنها من الجنة.

وفجأة يتغير كل ذلك، لقد عاد الشيخ يائساً وباكياً، وآثر هذه المرة أيضاً أن يكسر صمته ويتكلم: «ما أتعسكم وما أتعس أيامكم، أيصلكم شهر رمضان وأنتم في سكرة ما بعدها سكرة وفي عذاب ما بعده عذاب، تتيهون في الحياة فلا تملكون التوقف لتتساءلوا عن ماضيكم وعن حاضركم. إنه يناديكم، إنه يمد يده إليكم، إلى رحمته وأفضاله وإلى بركاته، فأين أنتم يا مغرورون».

بكى الشيخ، وبكى... وبكى... وبكى

العدد 1133 - الأربعاء 12 أكتوبر 2005م الموافق 09 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً