العدد 1143 - السبت 22 أكتوبر 2005م الموافق 19 رمضان 1426هـ

المزيد من الصراع ونحن نتفرج

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

الحقيقة التي لا يمكن إغفالها وتهميشها من ناحية إنسانية وحياتية واقعية هي وجود المصالح والمنافع في علاقات المجتمع الداخلية، سواء كانت العلاقة بين أفراده كآحاد، أم بين جماعاته وتكتلاته كمدارس فكرية، أو تيارات سياسية، أو انتماءات لها صلة وثيقة بقناعات الأفراد والجماعات العقدية والدينية. هذه المصالح قد تتوافق وتنسجم بين الأطراف والاتجاهات المتعددة، فتصبح العلاقة بينها منسجمة حميمة بمقدار ما، وتسود بحجم ذلك التوافق الألفة والمحبة والتعاطي الإيجابي المرن وقد تتباعد وتختلف وتتنافر في أحيان أخرى، بسبب انعطافات مفصلية أو مواقف غير متجانسة، أو لأي سبب آخر قد يهز تلك العلاقة ويدمرها، فيتبدل الحب وتختفي الإيجابية، وهي مؤشرات لإعلان الاحتراب الداخلي. ولا يبدو الأمر مستغربا في بشر الدنيا ومجتمعات الأرض أن يسود بينهم الاختلاف، وتتضارب الآراء، وتتباين التوجهات، ما يوصلها في بعض الأحيان إلى نوع من التصادم والتنافر والاستعداء لبعضها، بأي قدر كان، إنما الغرابة والحسرة في موقف المجتمع بكل طبقاته وشرائحه حين يتفرج على الصراعات الداخلية الطاحنة بين أطرافه وتوجهاته ومدارسه، وهو مكتوف اليد، ومنتظر لنتيجة المعركة. يمكنني القول إنه وإلى الآن لا توجد أطر ومؤسسات يمكن إرجاع هذه النزاعات والاختلافات إليها لتسعى إلى إصلاح ما فسد بين الأطراف المتنازعة وترميم ما تفطر من العلاقات القائمة، لا على المستوى الرسمي ولا على مستوى المجتمع المدني وفي إطاره الشعبي التطوعي، لأن مؤسسات إصلاح ذات البين والسعي الحميد إلى التوفيق بين المتنازعين، لم تحظ بمكانتها في النفوس كي ينبري لها الأخيار والصلحاء من الأمة. طبعا، ليس ذلك زهدا في الأمة عن فعل الخير والتطوع للخدمة والعطاء، لكن هذا الحقل المهم أهمل من عدة نواحي: الأولى: انه لم يضأ ولم يبذل له الجهد المطلوب من الضخ والتراكم التذكيري والتوجيهي الذي يصنع ثقافة دافعة نحو هذا العمل الطاهر، شأنه شأن كل المشروعات التي تسبق بإرهاصات وكتابات تنويرية تقفز بالمشروع إلى الصدارة والأولوية في الحياة الاجتماعية، يحدثنا الإمام الشيرازي "ره" في كتابه "فلسفة التاريخ" إن "الديمقراطية إنما نشأت في الغرب بعد مقدمات فكرية قام بها عدد كبير من المفكرين، وقرأت في كتاب أن مجموع ما كتب عن الديمقراطية في الغرب قبل ظهور الديمقراطية قد بلغ عشرين ألف كتاب، وعشرون ألف كتاب تحتاج إلى عشرين ألف مفكر إن قلنا إن كل واحد كتب كتابا واحدا"، بيد أن مكتباتنا شبه خالية من الكتب والبحوث والدراسات التي تعنى بموضوع إصلاح ذات البين، والتي ترسي أسس ودعائم لجان المساعي الحميدة، أما مكتباتنا الصوتية فهي أشد إقفارا وفقرا في تناولها لهذا الموضوع، وغالبية نتاجها هو وعظ أخلاقي عابر لا يرقى لمستوى الدفع والتوجيه. والثانية: أنه لم يعبد بواقع عملي له مؤسساته وجمعياته ولجانه، بل تركت هذه المهمة الميدانية لعالم الأفكار الهلامية المجردة والمبادرات الشخصية المتواضعة، فكانت تتحرك كلما وجدت أفرادا يعملون بها حسبما أشغفهم الأجر والثواب، أو أسعفهم المزاج، أو دفعتهم علاقات الصداقة والقربى ليصلحوا هامشا ضحلا من النزاعات الشخصية في هذه الأمة المنهكة بالصراعات. إن الكثير من الأخيار يبحثون عن البرامج والأعمال ذات القوالب الجاهزة والأطر القائمة فعلا، لأنها تكون أقرب لقبول النفوس بها، باعتبار سهولة مزاولة النشاط فيها وإمكانية الاستفسار عن طبيعة عملها وكونها جهدا تكميليا لا تأسيسيا، مضافا إلى الدعاية والإعلام الجاذب الذي توفره الأطر القائمة، وهو ما يفسر لنا سر المشاركة الاجتماعية في هذه الأطر الجاهزة كالجمعيات الخيرية ومشروعات الزواج الخيري وكفالة الأيتام وغيرها من الأمور الخيرة التي نالت من الحث عليها ما بوأها موقع الصدارة في النفوس، فاندفع الناس إليها أفواجا يلبون دعوة الأخيار، حبا في الإنسان وابتغاء ثواب الله ورضاه. إن العجب ليأخذ الإنسان وهو يلحظ تطوع الناس لحماية البيئة والعناية بنقائها وصفائها من التلوث، كجماعة الخضر، وجماعات العناية بالحيوان، ورصدت الموسوعة العربية العالمية في مجلدها السابع عشر أن 32 حزبا من 29 دولة اتحدت ودخلت البرلمان الأوروبي كقوة موحدة لحماية البيئة ومعارضة الحروب وإنتاج الأسلحة الفتاكة، ونشر مركز التمييز للمنظمات غير الحكومية في عدده العاشر أن التبرعات للحيوانات والبيئة في أميركا بلغت 6,41 مليارات دولار العام .2001 ويكبر العجب ليدفعنا إلى غربة قاسية وحيرة شديدة حين يكون المجتمع مسلما مؤمنا متمسكا بتعاليم دينه ورسالته، ذلك أننا سنكون أمام أسئلة تبحث عن إجابتها بإلحاح: ألا توجد آلية في المجتمع المؤمن بإمكانها التعاطي مع هذه الظروف الاستثنائية؟ كيف يمكن تأطير الخلافات؟ كيف يمكن حماية المجتمع من آثارها الضارة؟ وكيف يمكن إخماد حرائقها الاجتماعية؟ لاشك أن تعاليمنا الدينية لم تغفل واقع الطبيعة البشرية وما تحمله من إمكانية الاختلاف وما قد ينشأ عنها من إفرازات ليست في خير المجتمع ومنفعته، فعمدت إلى سن قانون الإصلاح، وقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقانون التناصح، وقانون التواصي، هذه القوانين مع غيرها من تعاليم الدين وإرشاداته تساعد على أن يبقى المجتمع ايجابيا حيويا مقاوما لكل الأمراض والمشكلات الاجتماعية. بيد أن هذه التوجيهات والوصايا الأخلاقية بحاجة إلى تفعيل يمكنها من إحداث الأثر المناسب، وأهم تفعيل لتلك القوانين هو أن تمارس ضمن أطر ومؤسسات وجمعيات، تبث ثقافة الإصلاح وتسعى حين الخلاف إلى التوفيق وتجد نفسها معنية بدفع المجتمع للمشاركة كبديل عن الفرجة والانتظار والتذمر. * كاتب وعالم سعودي

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1143 - السبت 22 أكتوبر 2005م الموافق 19 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً