العدد 1156 - الجمعة 04 نوفمبر 2005م الموافق 02 شوال 1426هـ

من الغفلة أن لا يُؤرخ لجرأة ذهابه إلى النص بدر الدوسري وأولاد الأزقة... أولاد المطر والعذاب الجميل

لـ «فاليري» كلمة جميلة أجدها مدخلاً مناسباً لقراءة الشاعر الممعن في تميزه، بدر الدوسري: «أولاد الأزقة هم بالدرجة الأولى، أولاد المطر».

وكثير من أبناء الخليج هم «أولاد أزقة»، وبالتالي هم أولاد المطر بالدرجة الأولى، وحين يكبر ذلك الولد، فيدهش من حوله بكلام لا يشبه الكلام، ويجد نفسه شاعراً، فهو من أولاد المطر بامتياز.

وأستعير كلمة لـ «كاترين دونوف» وردت في أحد مقالات الشاعرة أمينة الشيخ في إحدى زواياها بصحيفة «الوسط» تقول: «في كل أعمالي، حاولت أن أقنع العذاب بأن يكون جميلا... أعتقد أنني نجحت في ذلك».

الوقوف على تجربة الشاعر العذب الدوسري، تحيلنا إلى اقتناصين: اقتناص فاليري، واقتناص دونوف،... تحيلنا إلى الأزقة/المطر، وإقناع العذاب بأن يكون جميلا. ويكاد لا يخلو نص من ذلكما الاقتناصين، ينقل لنا الدوسري أزقته في النص، وهي بلا شك، أزقة في الصميم من الطُهْر والبراءة والعفوية والانطلاق في رحابة الحياة، على رغم ما يحيط بها من انكسارات، وعوز، وفاقات تنهمر كالسيل، في الوقت الذي لن تُعدمَ مطر النص، وهو ينهال عليك عالياً ليَسِمَكَ بسِمَة الحياة وريّها الغامر.

وفي العذاب الذي ينحاز إليه الدوسري في الكثير من نصوصه، تقف - بل تكاد - تمسك به في هيئة غير تلك التي عهدتها قبل أن يمارس الدوسري مهاراته الملفتة بتحويله الى جمال أخّاذ، وبذلك يقدّمه درسا ممتعا، تماما مثل درس الرياضة الذي ينتشلنا من غباء الدروس وكوابيسها، الى فضاء بحجم أحلامنا الصغيرة والكبيرة معا.

هل يحق لي في المساحة المخصصة لإضاءة جانب من تجربة الدوسري، أن أسترسل كما يجب؟ أم أنه مقتضى الحال، وصوت الاستدراك الذي يبدو لجوجا، هو ما يمنح ذلك الاسترسال مدعاته الأكيدة؟

لا شك أن أزقة بيفرلي هيلز ليست بذات روح وعفوية وبراءة ونقاء الأزقة التي وعى عليها الدوسري بأولادها، وحتى لو نشّطنا الذاكرة عودة الى 30 أو 40 عاما مضت. في الوقت الذي لمطر الأزقة تلك اختلافها وقيمتها المتباينة لدى أزقتي المكانين، والأزقة الكالحة البائسة والمنكسرة أحيانا هي التي منحت الدوسري كل ذلك البياض والغنى وحتى الكبرياء الذي لا يشبه أي كبرياء آخر في أزقة تعج بمتناقضاتها.

والمطر في أزقة الدوسري يتلوه انهمار للأغاني، ويتم حفظه بأدعية يصر هو - كما نفعل نحن - على أن تكون أقرب الى الأهازيج احتفاء بعاهل الحياة، فيما المطر في أزقة أخرى يتلوه تبرّمٌ، وفي أحيان أخرى، لعنات، على رغم أن بشر هذه الأرض ليسوا بحاجة الى من يذكّرهم ببياض الغسْل... الغسْل/الهبة التي تمنحها السماء لوجوه وأجساد وأرواح لها ملامح الأرض وطينتها.

ان محاولة تقصي المطر/ الماء في نصوص الدوسري يفتح أمامنا أفق تلمّس ماهية نصوصه التي يمكن لنا أن نطلق عليها بالنصوص المائية، ليس لوفرة حضور الماء فيها، بل لانتهاجها تلك السهولة واليسر الذي يذكّر ببساطة الماء، على رغم اكتنازها برؤى فلسفية عميقة.

في نص «إذا يومي بدا عريان» نقرأ:

«أنا النوته

وبيتي الناي

وليل الماي

يعزف كل معاناتي»

فعن أي ليل ماء يتحدث الدوسري، أو يحاول أن يستدرجنا اليه؟ وهل ثمة ليل ونهار للماء؟ يتركك الدوسري هكذا معلّقاً أمام ما يبدو أنه الصاعق من حُسْن تجاور المفردات في صورها المعاكسة والمتضادة، لكأنه يختبر بصيرتك قبل أن تقنعه بحدّة بصرك، ولن يتركك هكذا في مهب انسجامك، ليطلع عليك بصورة الإحالة على كنه ليل الماء ذاك بعزف معاناته التي يبدو أنه على رضا تام باستفزازها وشحنها له بتوتر غامر يكاد لا ينتهي. فيما نهار الماء ذاك، حين تستوي النفس على فِتَنها... تلك التي تتيح له هامش التحرك في رحابة الحياة والتنفس برئتين لم ينلهما النصب واحتباس الأفق.

وأمام أسوار تبدو لا نهائية، لا يدعها الدوسري تنعم بوهم علوّها، فثمة صوت... ثمة ماء يمعن في علوّه الاستثنائي:

«هالسور

ما يعلى

ولو طاحت

طيور الغيمه الفصحى»

على رغم ما توحي به بعض الأسوار الرابضة في الأمكنة من مصادرة الأول من الأمكنة (السكة/الأزقة) تلك التي لم تغب في الكثير من نصوصه إلا أنها في قرارته لا تضيع بدليل إلحاحها في الحضور:

«عقب هالسور

تضيع السكه لصغيره

تضيع الفرحه لصغيره

وحلمي ينطفي بالنور»

السكك وفيرة، ولكنه يعمد الى استحضارها واستدعائها بشكل ملفت في الكثير من نصوصه العذبة والغامرة... (سكيك) تأخذ ملامحها وأشكالها فيما يدل عليها... في التراب المحض المضمّخ بملامح عابرين... بوجوه أدمنت الحزن فصار مدلاّ عليها... بأصوات لها سمة العناق وفيها شيء من مستهلّ ماء الوضوء ساعة الفجر:

«أرتّب بالشعر جرحي

وافوّض عشبي للتربه

أشبّه ها لحزن بالناس

ويشبهني بعد غربه

لذا كلّمتك بصمتي

لأنّك أجمل الصحبه

كأنّك نخلة أوراقي

أشد وينثني ساقي

أمشّط همّي المسكين

أشمّ الأسئله في السين»

فمن يجرؤ - سوى الدوسري وقليلين - على تفويض العشب للتربة... التربة التي تشكل الملمح الأول لـ (السكّة) (الزقاق)؟ من سواه يعيد للناي صفته الأولى وملمحه الجدير؟ من سواه يتكلم بفصاحة صمته؟ من سواه يمشّط همّه؟

ماذا عن الخطوة؟ الكتابة / التوقيع الذي يتركه الواحد منا في طريقه الى العذاب... التهلكة... موعد ما... سفر... تيه يستفز نية الحسبان... الخطوة نفسها التي تتمرأى أمامها الأزقة بحفاوة تذكّر بأعياد أمعنت في تغييبها، ولكنها تفاجؤك كنهار جديد... هي الخطوة نفسها التي تمنحه/تمنحنا القدرة على تحسس ما يدل على أننا ما زلنا من رعايا الحياة، ولم يتم نعينا بعد:

الخطوه رشفة ماي

توله لكم وتروح

يفهمني هذا الناي

يسترني هذا البوح

خلّك قريب حْذاي

ما اقدر على لجروح

ثم ما هي حكاية الناي الذي يطلع علينا كهمس أحبة في غرباتهم المتواترة؟ هل ثمة علاقة هنا بين الناي والأزقة والمطر والعذاب الجميل؟.

ما الذي يتذكره الواحد منا في حضرة مطر له صفة المناورة؟ ما الذي يتذكره الواحد منا في حضرة عذاب جُبِلَتْ عليه أرواحنا وجُبِلَ عليه غدوّنا ورواحنا، وجبل عليه تنفسنا، وجبل عليه حِدَادُنا الطاعن في الفقد؟.

نقرأ في نص «نور»:

الخطوه طلّة نور

تضوي حزن لضلوع

واحنا مثل لطيور

عنّا الفضا ممنوع

نركض بليّا سطور

نضحك مثل لدموع

ونقرأ في نص «صحبة القهوه»:

انتو يا نبع الماي

لاَعْبر بحور الشوق

واسبح لكم بحشاي

يا صحبة القهوه

يا صحبتي فـ الشاي

يا مبلّلين الغيم

شوفوا ثمر معناي

حين يُؤرخ للجرأة في الذهاب الى النص، من الغفلة والحمق أن لا يكون الشاعر بدر الدوسري حاضرا وبامتياز

العدد 1156 - الجمعة 04 نوفمبر 2005م الموافق 02 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً