العدد 1162 - الخميس 10 نوفمبر 2005م الموافق 08 شوال 1426هـ

حداثتان... نخبتان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هناك مخاوف كثيرة بدأت تنتاب «الحداثات» العربية وتحديداً تلك النخبة الايديولوجية التي راهنت على الغرب في تحديث بنية العقل (الوعي) العربي واعتبرت أن أوروبا تملك اجوبة نهائية (سحرية) عن أسئلة ليست أوروبية.

هذه المخاوف لم تتطور حتى الآن إلى وعي نقدي وانما هي مجرد ارهاصات أخذت تتكشف أهمية البعد التاريخي/ المعرفي لمعنى الحداثة. وان الأخيرة لا تأتي من الغيب ولا من منتوج الآخر وانما تتطلب الجهد والتعب والتفكير الدقيق في تعقيدات الواقع وتشابكاته الأهلية والاجتماعية (العمران). فالمسألة تتعلق بطبيعة العمران والسلوك الاجتماعي والتطور الذي يقوم على إنتاج المعرفة لا استيرادها.

المخاوف إذاً موجودة وهي تشكل لحظة انتباه في سياق من توهمات سيطرت على العقل العربي وجرفته نحو قاع من البلادة الذهنية والسلوك الاتكالي على مجهودات الغير. والآن وبعد فوات الاوان أخذت تلك النخب تكتشف ان الطريق إلى «الحداثة» لا يبدأ بالقطع المعرفي مع الموروث ولا ينطلق من قاعدة إدارة الظهر للتاريخ وانما يتأسس من هناك. فمن شروط التطور التراكم. والمعرفة في هذا المعنى تشبه الرأسمال الذي لا يتوسع من دون إنتاج واستثمار وإعادة إنتاج واستثمار. والوعي أيضاً لا يولد فجأة من فراغ ولا يستورد من الخارج وانما يتأسس بناء على معارف سابقة (نظرية وتجريبية) وأيضاً يتعلم من الغير ويستفيد من تجاربه ويعيد تركيبها لتتناسب مع متطلبات التطور وضغوط الحاجة.

النخب العربية الإسلامية تنقصها نظرية معرفة. معرفة كيف يتطور الزمن ولماذا يتطور وما هي القوانين التي تتحكم بآليات تطوره. وكل هذه العناصر خالفتها النخبة العربية حين انطلقت من القاعدة الخطأ وذهبت للبحث عن وعيها (عقلها) في مكان آخر من دون ملاحظة تلك الفوارق الزمنية التي تفصل الجغرافيات عن بعضها.

الى هذا النقص المعرفي/ التاريخي وقعت النخب العربية في فخ الاستسهال الذي يقوم على فكرة التقليد والنقل وهو ما أدى إلى نمو جيل من الكسالى يحفظ النصوص ولا يفهم تلك الاشارات الحسية التي تدل عليها.

النخبة الأوروبية مثلاً لم تقطع مع تراثها وتقاليدها ومعارفها وموروثها التاريخي/ الفلسفي وانما انكبت عليه تدرسه وتستفيد منه وتعيد إنتاجه وتطويره بما يتناسب مع عصرها وظروفها وحاجاتها. حتى هذه البديهة لم تعقلها النخب العربية مع ان كل الفلاسفة من عصر ما يسمى بالانوار إلى فترة الثورة الصناعية الثانية (التكنولوجية) أكدوا مراراً على التواصل (التراكم) مع الماضي والاستمرار في سياق لا ينفصل عن زمن سابق وحاضر قائم ومستقبل آتٍ.

كل فلاسفة أوروبا المعاصرة أسسوا نظرياتهم (اطروحاتهم) على قراءات مكثفة وواعية للفلسفة اليونانية والحضارة الرومانية والميراث الإنساني للتجربة الإسلامية/ العربية في الاندلس. ومن تلك التجارب الموروثة استخلصوا العبر واستنبطوا المفاهيم وأسسوا مدارس معاصرة لا تتنكر للماضي ولا تقفز نحو استنتاجات هوائية منقطعة عن الواقع وتحولاته. وفي حال تمت مراجعة اطروحات مختلف المدارس الفلسفية الأوروبية نجد ان جذورها موجودة في ماضي أوروبا ودين القارة الرسمي (المسيحية). ومعظم تلك المدارس مزجت بين الدين والفلسفة حتى تلك التيارات الملحدة. هيغل مثلاً درس الفلسفة اليونانية وبنى منهجه الفلسفي عليها. كذلك ماركس درس الفلسفة الاغريفية ومنها انتج افكاره عن الكثير من المناهج والتيارات الجدلية والمادية. وانغلز (صديق ماركس) عاد إلى التاريخ اليوناني والحضارة الرومانية وصولاً إلى الجرمان ليدرس تطور العائلة والملكية الخاصة والدولة. فالفكر الأوروبي من توما الاكويني إلى جان بول سارتر تأسس على الموروث وتماثل معه احياناً واعاد إنتاجه وتطويره بهدوء ومن دون قفز أو قطع أو إدارة الظهر.

وهذا هو الفارق بين النخب الأوروبية والنخب العربية. والفارق يبدأ من الأسس الموضوعية والجهد الذاتي وعدم التنكر لجهود الآخرين ودورهم في تقديم اضافات ولو جزئية لتطوير المعرفة.

المسألة إذاً تتصل بالمنطلقات الخاطئة مضافاً إليها الكسل والبلادة الذهنية التي أسست تيارات فكرية عربية تستنبط الفكر من النصوص لا من قراءة التاريخ (العمران البشري) ومحاولة فلسفة وقائعه والبناء عليه لإعادة إنتاج نص يقارب الواقع ولا يلغي التاريخ وما قدمه من نتاجات تعكس تطور الوعي في محطات زمنية متدرجة.

هذا الكسل يمكن تعيينه في الكثير من الحالات والحقول حتى تلك المتعلقة بالاقتصاد والمال والإنشاءات. والكسل يعني الاتكال على الغير والاعتماد على «الأجنبي» في تحقيق التقدم والإصلاح. وهذا الأمر لم يعد سراً بعد أن تحول إلى مهمة دولية (أميركية) تدعي إدارة جورج بوش انها انتدبت نفسها للقيام بها نيابة عن الشعوب العربية.

ما يحصل اليوم من فضائح تتصل بالمشروع الأميركي وادعاءات بوش انه يريد تطوير العرب وإصلاحهم وربما تعليمهم الدين الإسلامي «الصحيح» تعتبر من أكبر الاهانات التي تساق ضد العرب والمسلمين. والغريب ان مثل هذه الاهانات لقيت الترحيب من قبل جهات كثيرة من النخب العربية وبعض رموز «الحداثات» المتفرقة والموزعة على الاشطار (الاقطار) العربية. وهذا النوع من التقبل لمثل هذه الاهانات يمكن ان نجد تفسيره في تلك الثقافة الاتكالية التي أسستها تيارات وجدت في الغرب «واحة» حضارية يمكن الانتقال إليها والارتحال إلى مكانها ظناً من مؤسيسها ان «الحداثة» هي مجرد بضاعة تستورد وليست إنتاجاً يحتاج إلى العقول والسواعد وابتكار اساليب التقدم لانجازها.

هذا النوع من التفكير «الحداثي» اوصل الأمة إلى الكارثة/ الفضيحة التي نشهد بعض فصولها على مسرح تاريخنا المعاصر. فالكارثة الآتية ليست منفصلة عن تلك الثقافة الارتحالية (الاتكالية) التي تتكسب من منتوج الغير وتقتات من جهود الآخر من دون انتباه إلى ان مسألة التطور تحتاج إلى تقدم داخلي يندفع إلى الامام بضغط من الحاجة أو الرغبة في التعلم والتكيف والدخول في سباق مع المنافسين.

النخب العربية اليوم تعيش عصر الفضيحة. والفضيحة لا تقتصر على أنظمة أسهمت في تقليع اظافر الأمة وسحق اعصابها وتطويع شعوبها واذلال أهلها... وانما أيضاً تشمل تلك «الحداثات» التي أسست ثقافة الذل والتبعية والاتكال والكسل والبلادة الذهنية. فالأنظمة تتحمل مسئولية سياسية بما تعنيه السياسة من ممارسة شئون الحكم بينما تتحمل «الحداثات»، أي النخب العربية المسئولية المعرفية لأنها مارست التسلط الايديولوجي وأنتجت ثقافة لا تتصل بالواقع ولا تقاربه بسبب تلك العقلية القطعية التي انطلقت من القاعدة الخطأ في ابتعادها عن ماضيها وحاضرها... وأخيراً مستقبلها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1162 - الخميس 10 نوفمبر 2005م الموافق 08 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً