العدد 1175 - الأربعاء 23 نوفمبر 2005م الموافق 21 شوال 1426هـ

صحافة... فوق العادة

عادل مرزوق Adel.Marzooq [at] alwasatnews.com

-

«الصحافيون يحتاجون إلى التحرر من فهم دورهم أنه وساطة بين السلطات السياسية وبين عموم الجمهور، إلى التفكير في أن دورهم أيضاً مهمة فتح نقاش سياسي في مجتمع مدني. قد يكون هذا هو الوقت الذي يقوم فيه الصحافيون بالانضمام إلى مجتمع مدني، وان يبدأوا في الحديث مع قرائهم ومشاهديهم كمواطن مع الآخر، بدلاً من خبراء يدعون أنهم فوق السياسة»

دانيال هالين (صحافي أميركي)

لابد من التنبه إلى أن ثمة صحافات متنوعة، فإذا افترضنا وجود صحافة مدنية في المجتمع المدني، فإنه إقرار ضمني بوجود صحافات أخرى مخالفة ومختلفة. هذه الصحافات تتمايز في استراتيجياتها وأهدافها، إلاّ أنها تبقى في حقيقتها بعيدة عن المدنية أو عن خدمة مصالح الإنسان المدني. الصحافات الأخرى تعتمد على مفاهيم كلاسيكية وليدة الحراك المجتمعي إبان المعاناة الأولى للإنسانية مع السلطة بمفهومها الكلاسيكي طبعاً. قد تجد خطاباً تأسيسياً للصحافة هو أشبه بالشعارات الحماسية والثورية، إلاّ انه إجرائياً خطاب ميت أو مستلب أو حتى موظف بذكاء من قبل السلطة لخدمة مصلحتها وديمومتها. قد تكتب الصحافة في الظاهر ضد الدولة، إلا أنها تضمر نتائج أكثر خطورة من الدعاية المباشرة للدولة. «الصحافة وظيفتها الإخبار وتحقيق حق المعرفة للإنسان»، عبارات نحتت في الصخر، تكلست، تصنمت، وتصنم الصحافيون معها، أما الجمهور فهو قوالب جاهزة، وما علينا سوى أن نملأها أخباراً ونظريات. ما أجمل أن نعيد صوغ المفاهيم، بمعنى أن نعتقد أننا من يصنع الخبر وأننا من يصنع الجمهور، وبذلك نحدث طفرة في مفاهيم الصحافة، لكن هذا لا يكفي. سأحاول الزعم أن الطفرة الحقيقية هي أن المجتمع هو الذي «يصنع الحدث وهو من يصنع الصحافة حين تنقله وتبثه». صحافة اليوم، صحافة السوق، بمعنى ما يطلبه السوق من تسلية، أو ما يريده المعلنون، فتكون صحافة معلنين ورأس مال متغير المزاج والرغبات. صحافة تحترم مؤسسة المال من دون الاهتمام بخصائص رأس المال والاحتياجات الحقيقية التي يحاول صناعتها في سبيل نموه وبقاء قوته. هناك طبعاً صحافة الوصاية، وخصوصاً لكتاب الأعمدة والمقالات التحليلية، وتقوم على أن يقدم الصحافيون المادة التي يعتقدون أن المواطنين يجب أن يحصلوا عليها لكي يصبحوا مشاركين مطلعين في الديمقراطية. وأخيراً صحافة الرأي الموبوءة بالأدلجة وقيادة الشارع، الصحافيون فيها يقدّمون للجمهور أخبار الحزب السياسي ورؤيته، أو كلاسيكيات صحافة السلطة التنفيذية الدولة. كانت التطلعات كبيرة في رواج «صحافة الجمهور»، وهي منتج أميركي أنتج منذ نهاية السبعينات، وبرز العام 1988 في تزامن مع الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ ألح الصحافي ديفيز ميريت تلك الفترة على عقد اتفاق جديد بين المرشحين والصحافيين الذين سيركزون على القضايا التي يهتم بها المواطنون، أكثر من الموضوعات التي يهتم السياسيون بأن يتحدثوا عنها. للصحافة المدنية كما أسلفت «صورة أميركية»، واستمرت الاشتغالات الإعلامية الأميركية بشأن صحافة الجمهور منذ 20 سنة ماضية، وقد لاقت تحليلات ومراجعات إيجابية عدة، وكذلك حظيت بنقودات مهمة، كان أبرز النقودات التي نالتها صحافة الجمهور هو نقد مايكل شودسون في مقاله الشهير «حركة صحافة الجمهور وإشكالاتها»، إلاّ أن تبلور مفهوم أخير لصحافة الجمهور لم يتم حتى اليوم. المنتج الأميركي لطالما عابته طوباوية طالها النقد فلم تكتمل. تزعم الصحافة المدنية أنها تقدم نموذجاً جديداً للكيفية التي يجب على الصحافيين أن يسهموا بها في عجلة الديمقراطية، إذ ان الصحافة التقليدية تفترض أن الديمقراطية هي قائمة فعلاً، وأن المعلومات هي ما نحتاج إليه فقط، و«الصحافة المدنية» تعتقد أن العكس هو الصحيح، نحن نعيش في بحر من المعلومات، بينما الديمقراطية هي ما نحتاج إليه فعلاً. لذلك تتسم ممارسة الصحافة المدنية بالرغبة الصادقة في تفعيل وتحديث وتطوير الديمقراطية، وليس فقط القيام بنقل الحوادث والتعليق عليها بآراء الصحافيين التي غالباً ما يعكف أصحابها على صبغها بألوان الحقيقة المُخلِصة والوعي الفوق سياسي. الصحافة المدنية هي نموذج فريد، صحافة لا تعتمد على السوق، أو الايديولوجيات، أو حتى الصحافيين أنفسهم. ليس من الضروري في الصحافة المدنية أن يتم انتخاب رئيس التحرير من قبل أفراد الشعب، لكن المثير أن نحاول أن نجعل غرفة الأخبار مليئة بالأعراق المختلفة والتيارات المتباينة من الصحافيين، بوصفنا نقوم بتحوّل ديمقراطي في الممارسة الصحافية. الصحافة المدنية هي أولى الممارسات الديمقراطية لأي مجتمع. ليست العملية في خلق الصحافة المدنية مقيدة بالمفهوم المدني فحسب، إن تميزها يظهر في أنها مدنية تدخل في حقل يتسم بوجود المهنيين، مدنية مهنيين، لا مدنية جمهور اعتيادي، قد يعطيها هذا خصوصية معينة، قد تصعب، وقد تكون سهلة التكوثر. «الصحافة المدنية» تلزم الصحافي أن يتحدث مع الجمهور، وأن يعرف الجمهور ويبحث عنه، وأن يعرف ما يريد هذا الجمهور بالضبط، والجمهور ليس بوصفه الجمهور المتوقع الذي يختاره الصحافي ليدعي بذلك معرفته بالآراء خارج غرفة الأخبار، بل هو جمهور عشوائي، تختاره الصحيفة من الخارج من دون تقصد واختيار، وهذه الجزئية من أهم مقومات بناء الصحافي المدني. لذلك تعكف الصحف الأميركية على التقاء صحافييها مع عامة الناس في جلسات أسبوعية ودورية، في رغبة منها بأن تكون العلاقة بين الصحافة والجمهور حقيقة لا تنبؤاً أو كهانة. لابد للصحافي المدني أن يكسر القوالب والتقاليد الصحافية المهنية، أن يؤسس مفاهيم وأعمالاً أشبه بصراعات المجتمع الذي يعيش فيه، لأنه منه لا فوقه أو تحته، هو في خط متواز معه تماماً. قد تكون الصحافة المدنية تحتوي الكثير مما يثير الامتعاض، أو أنها كما يصفها محرر «نيويورك تايمز»: «سامّة لقيم الأخبار». لابد من كسر القوالب المغلقة للصحافة التقليدية، وجعل العملية أكثر انسيابية في التحول نحو الصحافة المدنية. التقاليد الصحافية الكلاسيكية بحاجة إلى الهتك، وعملية الهتك هذه لا تنتظر تقاليد جديدة بقدر ما هي تنتظر مدنية أكثر. إن أبرز جزئية أدعي أنها ميزة مهمة للصحافة في المجتمع المدني، هي أنها مفهوم نصنعه للمهنيين أنفسهم، بمعنى أننا لسنا بصدد المحاولة في تغيير الجمهور كما تسعى مؤسسات المجتمع التي تدعي المدنية، بل نحاول أن نخاطب الفئة المهنية ذاتها، ولسنا بذلك نقع في مطب المهنيين (النخبة) حين يمارسوا صحافة الوصاية تجاه القراء. إلاّ أن أكثر زاوية تتصف بالضيق هي أننا ندعي ونزعم بأننا بهذا المفهوم نؤسّس إلى الاعتقاد الجازم بأن الصحافيين المهنيين لديهم «قراءة واعية لمفهوم الديمقراطية» وكيفية تطبيقه بما ندعو له أو نسميه بالصحافة المدنية. الصحافي لن ينشر أو يعمل بديمقراطية إذا كانت ديمقراطيته المعرفية والفكرية والإعلامية منتقصة، ففاقد الشيء لا يعطيه. هناك ممانعة في التفكير تجاه ماهية الأسس التي يبني عليها الصحافي التقليدي قصصه الإخبارية، وفي وضع سياسات الأخبار، وتندر البحوث الأكاديمية في هذا الجانب تحديداً، والصحافة المدنية تدعو إلى إعادة التفكير بشأن هذه السياسات والممارسات. نحن نسعى إلى مناقشة سلطة الصحافة، وندلل بأن للصحافة سلطتها الضبطية للمجتمع بأنها أحيانا تقوم بأدوار لا مهنية تقليدية ولو على استحياء. فما الذي يجعل صحيفة «شارلوت أوبزيرفر» الأميركية تعقد اجتماعات داخل المدن لمناقشة مشكلات الأعراق والعنصرية؟ ليس المقصود بالصحافة المدنية ممارسة الدور الاجتماعي، لكن القصد هو إيجاد البيئة الحوارية الديمقراطية لبناء ووجود هذا الحوار الديمقراطي، ليس عليها أن تقوم بالحوار الديمقراطي ولكن عليها أن تمهّد له وتتبناه. الصحافة المدنية تعطي الصحافة سلطة كبرى، هي على غرار مفهوم «السلطة الرابعة» الحالي، إلا أن سلطتها اليوم في العالم العربي نابعة عن ارتباطها بالسلطة السياسية أو برؤوس الأموال التي تدور في فلك السلطة، والسلطة التي نريدها لها سلطة تتحصلها من المجتمع المدني، لذلك كلاهما سلطة، إلاّ أن السلطة التي نريدها لها هي سلطة عقدية لا مفروضة أو تابعة. لكن من الذي أعطى الصحافيين المدنيين هذه السلطة؟ نستطيع أن نعطيهم حق السلطة عبر بحوث الرأي العام، وتمثيل القراء، والصحافة التحليلية، فهم يقيسون ويتعرفون على آراء الناس، ثم يكونون سلطتهم بتمثيل هذه الآراء. هذه الصور أعطت الصحافة المدنية الحق في التدخل الاستراتيجي في صوغ برامج المرشحين السياسيين، الصحافة المدنية تنحو نحو تمثيل الجمهور رغماً عن الساسة، أو هي قوة الضبط والضغط على الساسة، من دون انتخاب أو تفويض عقدي، وهذا ما أسماه الساسة الأميركيون بـ «الخديعة».

إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"

العدد 1175 - الأربعاء 23 نوفمبر 2005م الموافق 21 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً