العدد 2995 - الأربعاء 17 نوفمبر 2010م الموافق 11 ذي الحجة 1431هـ

بداية المسيحية في شرق الجزيرة العربية

سنحاول في هذا الفصل تعقب تاريخ وجود الديانة المسيحية في البحرين وشرق الجزيرة العربية وفي سبيل ذلك سنحاول جمع المعلومات المتعلقة بالوجود المسيحي في هذه المنطقة من المصادر العربية القديمة أو كما تسمى كتب الأخباريين وكذلك المصادر السريالية التي وثقت تاريخ كنيسة الشرق، وتعتبر المصادر السريالية هي الأكثر تفصيلاً في هذا الشأن، ويرى البعض أنه لا يجب الاعتماد على كتب الأخباريين المدونة جميعها باللغة العربية، حيث أنها تبدي اهتمام ضئيلاً بالطوائف غير المسلمة، فهي تشير فقط عبر تلميحات عابرة إلى وجود المسيحية في شرق الجزيرة العربية سواء كان في فترة قبل الإسلام أو أثناء الفتح الإسلامي، ولا تقدم إلا تفاصيل قليلة جداً عنها (Beaucamp et Robin 1983). وهنا سنعرض ما جاء في المصادر السريالية والمصادر العربية.


أولاً: من المصادر العربية

هناك العديد من الإشارات التي تشير لوجود المسيحيين في شرق الجزيرة العربية، إلا أنها لا تقدم أي إيضاحات حول أهمية وتنظيم الطوائف المسيحية فلا يوجد نص يشير بوضوح إلى وجود المسيحيين فيها. فهذا الوجود لا يشار إليه إلا عن طريق غير مباشر وذلك عند الإشارة إلى القبائل التي تنصرت جزئياً. كما تشير المصادر العربية الإسلامية إلى وجود اليهود والمجوس في شرق الجزيرة العربية ولكن دون ذكر لقبائل اعتنقت هذه الديانات (مبارك 1995، ص44).

وقد ذكرنا في فصل سابق أهم القبائل التي سكنت البحرين وشرق الجزيرة العربية وهي عبدالقيس، وقضاعة وبكر وتغلب أبناء وائل وتميم، وتشير المراجع العربية إلى أن أكثر القبائل تنصراً كانت قبيلة تغلب، إلا أنها لم تكن أهم قبيلة من تلك القبائل التي استوطنت البحرين (Beaucamp et Robin 1983). وأما قبيلة بكر بن وائل فقد تنصرت جزئياً، وفيما يخص قبيلة تميم فلا يبدو أنها قد تأثرت بالنصرانية إلا بصورة سطحية (Beaucamp et Robin 1983).

وفيما يخص قبيلة قضاعة وقبيلة عبد القيس، القبيلة الأساسية في البحرين، فقد غلبت عليهم المسيحية وبالخصوص قبيلة عبدالقيس أما الأدلة على ذلك فيلخصها عبدالرحيم مبارك في كتابه «قبيلة عبدالقيس» نقلاً عن المحبر لابن حبيب ورسائل الجاحظ وابن حزم في جمهرة أنساب العرب وابن سعد في الطبقات حيث يقول: «إن المسيحية تغلغلت في منطقة البحرين وانتشرت بها وغلبت على قبائل قضاعة وطي ثم ظهرت في ربيعة فغلبت على تغلب وعبدالقيس وبكر بن وائل. ويبدو أن انتشار المسيحية كان قوياً في أفراد عبدالقيس فيذكر ابن حزم أن عبدالقيس بأسرها اعتنقت هذه الديانة» (مبارك 1995، ص44 - 45).

ومما يستنتج من المراجع أن قبيلة عبدقيس كانت وثنية قبل انتشار المسيحية فقد كانت لهم معبودات مثل ذو اللبا والمحرق وكانت لهم طقوس خاصة يمارسونها أثناء العبادة (مبارك 1995، ص44). ولكن يبدو أنه بعد دخول المسيحية في أراضيها أعتنقها بنو عبدالقيس جميعهم وأصبحت هي الديانة الرسمية.


ثانياً: المصادر السريالية

هناك عدد من المراجع كتبت بالسريالية توثق تاريخ الكنيسة الشرقية وهي التي تعرف بالمراجع الأولية كأرشيف محاضر جلسات المجامع الكنسية ورسائل الجاثليق وغيرها (Bin Seray 1996). ومن تلك المراجع الأولية السريالية تم استخلاص مجمل المعلومات عن الطوائف المسيحية التي وجدت في شرق الجزيرة العربية والتي نشرت في العديد من الكتب والبحوث المتخصصة وهي المراجع التي رجعنا لها هنا. ومما يفهم من ما ورد في تلك المراجع أن الديانة المسيحية أول ما انتشرت في شرق الجزيرة العربية انتشرت في الجزر القريبة من شرق الجزيرة العربية وذلك في القرن الرابع الميلادي وقد عرفت أبرشيات هذه المناطق باسم «أبرشيات الجزر» ولم تصل المسيحية إلى البر الرئيسي سوى في وقت لاحق، فأقدم إشارة ورد فيها ذكر أسقف ينتمي إلى منطقة في شرق الجزيرة العربية توجد في محاضر جلسات المجمع الكنسي النسطوري للعام 576م (Beaucamp et Robin 1983). وسنحاول هنا تحديد الجزر الأولى التي انتشرت فيها المسيحية من خلال ما توفر من معلومات.


الفرق بين «أبرشيات الجزر» و «بيت قطرايا»

لقد ظهر مصطلح بيث أو بيت قطرايي أو قطرايا لأول مرة في بداية القرن السابع الميلادي وهو يشير لمنطقة شرق الجزيرة العربية بما في ذلك الجزر القريبة منها (Beaucamp et Robin 1983)، ولهذا المصطلح دلالات أهمها وجود تنظيم معين وهذا التنظيم لم يكن موجوداً في بداية دخول الديانة المسيحية لهذه المنطقة فلذلك نجد أنه كان يشار للكنائس التي انتشرت في الجزر القريبة من شرق الجزيرة العربية باسم «أبرشيات الجزر». وليس مصطلح «أبرشيات الجزر» مساوٍ لمصطلح «بيت قطرايا» وإنما الاسم الأخير مصطلح ساد منذ بداية القرن السابع الميلادي لأسباب سنعالجها عند التطرق لهذه الحقبة وسنتطرق لمعنى المصطلح ودلالاته وما يساويه من أسماء عربية وذلك في فصل مستقل. أما في هذا الفصل فسنعالج ذكر الجزر التي بدأت فيها الديانة المسيحية ونذكرها هنا بحسب التاريخ.


1 – تاريخ أربيل وبيت قطرايا

أول إشارة لوجود طائفة نصرانية في شرق الجزيرة العربية جاءت في كتاب « تاريخ أربيل» حيث ورد ذكر بيت قطرايا ضمن القائمة الخاصة بالمناطق التي تتمتع بوجود أساقفة وذلك في حدود العام 224م إلا أن هذا التاريخ ليس له قيمة بسبب أن كتاب تاريخ أربيل تم رفضه من قبل عدد من الثقات وقد اعتبر وثيقة زائفة، بين ما اعتبره البعض صحيحاً لكن دون أن يفندوا الانتقادات التي أثيرت حوله (بوتس 2003، ج2 ص1012 وهامش ص1013).


2- الجزيرة السوداء

جاء في Vita Ionae أن راهباً عاصر الجاثليق برب عشمين (343م – 346م) اسمه جونه قد بنا ديراً على جزيرة تسمى «الجزيرة السوداء» وهذه الجزيرة تقع بين قطر وعمان (Bin Seray 1996). ولم يتم تحديد هذه الجزيرة بصورة قطعية ويعتقد أنها إحدى الجزر القريبة من جزيرة سر بني ياس التابعة لدولة الإمارات العربية Carter 2008


3 – جزيرة رمث

في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي أشار «تاريخ سيرت» إلى الأنشطة التي كان يقوم بها القديس أبديشو (عبد يشوع) في إحدى جزر اليمامة والبحرين والتي تسمى «رمث» حيث كان يعيش هناك حياة معتزلة ويقوم بتعميد الأهالي وقد قام ببناء دير على هذه الجزيرة، وكان أبديشيو تلميذاً لمار عبدا ويعرف أنه مؤسس للعديد من الأديرة في عهد الجاثليق توماس (363م – 371م) (بوتس 2003، ج2 ص1019). وقد ذكر عن جزيرة رمث أنها تبعد مسافة 68 فرسخ عن الإبلة في البصرة أي قرابة 381 كيلومتر، وبحسب هذه المعلومة تكون جزيرة رمث مطابقة لجزيرة «أبوعلي» التي تقع شمال الجبيل مباشرة (بوتس 2003، ج2 ص1019 وهامش ص1019).


4 – مشماهيج وتاروت وداري

ورد ذكر مشماهيج أي سماهيج بمعنى جزيرة المحرق وكذلك دارين وجزيرة تاروت في محاضر مجمع العام 410م، والذي يمكن استنتاجه من هذا المحضر أن ثمة دير بني في مشماهيج قبل العام 410م بينما بني دير آخر في دارين في جزيرة تاروت ربما في فترة زمنية قريبة من العام 410م، ولكي نتعرف أكثر على تفاصيل ذلك علينا أن نورد هنا تفاصيل مجمع 410م.


مجمع ساليق العام 410م

ارتأت القيادة الساسانية تركيز قيادة الطائفة المسيحية القاطنة في حدود الدولة الساسانية لكي تسهل من عملية التعامل معها والسيطرة عليها وتم ذلك في العام 410م في عهد الملك الساساني يزدجر الأول (399م – 420م) الذي قام بتركيز القيادة المسيحية وذلك بجعل كنيسة واحدة هي المركز الرئيسي وقد تم اختيار كنيسة ساليق والتي تسمى أيضاً سلوقية - طيسيفون أو ماحوز (من الآرامية وتعني المدينة) والتي عرفت لاحقاً باسم المدائن، وتم تعيين الأسقف إسحاق رئيساً لها واستحدث له لقب جاثليق المسيحيين الشرقيين (بوتس 2003، ج2 ص1016). أما اللقب جاثليق فقد تم تبنيه من قبل كنيسة ساريق في وقت سابق حيث كان نفوذها في ازدياد، وهو اسم كان يطلق مدنياً على جابي الضرائب في المناطق الرومانية ويعني العام أو الشامل (أبونا 1985، ج1 ص33 - 34).

وفي العام 410م دعا إسحاق إلى مجمع، وينبغي اعتبار هذا المجمع من أهم المجامع في تاريخ الكنيسة السريالية لأن فيه أقرت المبادئ الأساسية لتنظيم الكنيسة السريالية والتي تتلخص فيه ترتيب السلطة الهرمي حيث تم تقسيم الإمبراطورية الساسانية إلى مناطق كنسية واسعة تتوافق مع أقسام الإمبراطورية الأرضية الرئيسية وكل منطقة كنسية تقسم إلى وحدات أسقفية صغرى تعكس تقسيمات الدولة الإدارية والقضائية ذات المستوى الأدنى، ويرأس كل منطقة كنسية مطران تابع لرئيس كنيسة ساليق الذي يرأسها الجاثليق أو «جاثليق جميع النصارى في الشرق» (بوتس 2003، ج2 ص1016).


«أبرشيات الجزر» في العام 410م

في أثناء انعقاد المجمع الكنسي النسطوري للعام 410م قد ورد ذكر»أساقفة أسقفيات فارس والجزر» ويعتقد أن هذه إشارة للأبرشيات التي شيدت في الجزر القريبة من شرق الجزيرة العربية (Beaucamp et Robin 1983) وسنتتبع هنا تلك الأبرشيات التي ذكرت في هذا المجمع.


1 – أبرشية مشماهيج

وفي هذا المجمع أيضاً ورد ذكر أبرشية مشماهيج حيث ورد في محضر المجمع تذكير يشير إلى أن أسقف مشماهيج المدعو «باتاي» الذي سبق أن تم إيقافه وتوبيخه قد تم طرده من الطائفة وخلع من منصبه بإجماع كافة أعضاء المجمع الكنسي (Beaucamp et Robin 1983). ومن ضمن من وقعوا على محضر المجمع وجد توقيع لأسقف يدعى «إلياس» حيث وقع كأسقف مشماهيج، ومن هنا يتضح بجلاء أن إلياس هو الأسقف المرسوم الذي يعترف به إسحاق ويحتمل أن يكون باتاي كافح لتنزع السلطة من إلياس، وهذا الخبر يدل على أن أبرشية مشماهيج من أقدم الأبرشيات التي عرفت في شرق الجزيرة العربية (بوتس 2003، ج2 ص1019 - 1020).


2 – أبرشية دارين

جاء في محضر المجمع السابق تعيين بولس كأسقف لأبرشية في جزر (أو جزيرة، يتعذر التأكد من ذلك بسبب صعوبة النص) تدعى «أردي» و»تدورو» ( أو تدرو) (Beaucamp et Robin 1983). وقد استبعد أن تكون «أردي» تحريف للاسم «أرادوس» وهو اسم قديم كان يطلق على «عراد» والتي كانت جزيرة صغيرة متصلة حالياً بالمحرق حيث أن هذه الجزيرة صغيرة جداً وقريبة جداً من المحرق لكي تعتبر مستقلة عنها وكذلك تم تحديد موقع أسقفية مسماهيج على جزيرة المحرق، وبما أن الأسقفيتين ورد ذكرهما في آنٍ واحد في هذا النص الذي يعود للعام 410م فلا يمكن التصور أن اسمين مختلفين أحدهما محلي والآخر فارسي يطلقان على نفس الموضع، لذا تم ترجيح أن «أردي» هي دارين (Beaucamp et Robin 1983). أما بالنسبة لتدورو فقد اقترح دانيال بوتس أنها تشير لجزيرة تاروت (بوتس 2003، ج2 ص1019 - 1020).


إلحاق أبرشيات الجزر بكرسي ريو أردشير

في العام 420م عقد المجمع الثاني للكنيسة السريالية بقيادة الجاثاليق يابالاها الأول الذي خلف إسحاق. ولم تكن هناك أي إضافات على المناطق الكنسية الخمس السابقة وقد ذكرت أبرشيات الجزر والتي يعتقد أنها أبرشيات شرق الجزيرة العربية بما فيها جزر البحرين (Beaucamp et Robin 1983). ولكن في المجمع الثالث للكنيسة السريالية في العام 424م بقيادة الجاثاليق الجديد داديشيو أضيفت منطقة كنسية جديدة وهي ريو أردشير الواقعة قرب بوشير الحديثة في جنوب فارس، وقد كانت أبرشيات شرق الجزيرة العربية تابعة لكرسي ريو أردشير (بوتس 2003، ج2 ص1016).


انفصال أبرشيات الجزر

بعد العام 410م لا يوجد ذكر لأي من كنائس بيث قطراي في مجامع كنيسة الشرق، وقد رجح البعض ذلك أن البحرين كانت تتبع دولة كندة سياسياً (بوتس 2003، ج2 ص1021). وفي فترة انفصال أبرشيات الجزر عن الكنيسة الرئيسية حدثت العديد من القلاقل في كنيسة الشرق والتي ألقت بظلالها على المنطقة، وسنحاول أن نتناول في الفصول القادمة ماذا حدث للبحرين في فترة الانفصال وما هي القلاقل التي مرت بها كنيسة الشرق.

العدد 2995 - الأربعاء 17 نوفمبر 2010م الموافق 11 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً