العدد 2997 - الجمعة 19 نوفمبر 2010م الموافق 13 ذي الحجة 1431هـ

لماذا يرحلون إلى مكة؟

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

يدخلون إلى الطائرة تباعاً وهم ينظرون في وجوه الآخرين، بعضهم سعداء، وبعضهم لا تبدو عليهم أية ملامح، ومنهم من يشعرون بتعب الحج قبل صعودهم إلى الطائرة، حيث يفكّرون في كل تفاصيله وكل المشقة التي سيتكبدونها أثناء تأديتهم لمناسكه، ثم يتمتمون بإرهاصاته حتى وهم يشربون كوب قهوة نصف ساخن في أحد مقاهي المطار.

أتفرّس في وجوه الراكبين وقد اصطفوا خلف بعضهم دون أن يبحثوا عن أماكن جلوسهم، إلا أنهم يبحثون عن شيء ما. عن الطمأنينة ربما، أو عن الأمان الروحي الذي يهبط من السماء على قلوبهم كلما تذكروا أنهم سينظرون إلى الكعبة اليوم. بعض الذين لم يذهبوا إلى الحج من قبل يتلهفون، بقلق، للوصول إلى مكة، فهي هدفهم الرئيسي، وأولئك الذين زاروها من قبل يطمحون للوصول إلى أبعد من مكّة.

مكة بالنسبة إلى الفريقين هي نقطة بداية جديدة، نقطة بيضاء في صفحة تزداد بياضاً كلما اقتربوا منها، يخط فيها الحاج قدره من الآن وصاعداً، ويزيّن حواشيها بما يشاء من الأمنيات السعيدة، ويكتب أسماء أطفاله الذين لم يولدوا بعد. في مكّة تتوحد أمنيات الناس وتمتزج آمالهم، وما أن تقع أنظارهم على الكعبة حتى يجأرون بصوت مُذْنِبٍ واحد طالبين الصفح والرحمة لهم كلّهم دون تفريق، فليس هناك رحمة ناقصة.

بعض الحجاج كانوا صغاراً في السن، شباناً وشابات لم يتجاوزوا الحلم بكثير، ولا أدري عن أية ذنوب سيتوب هؤلاء الذين يجرّ أحدهم أمّه خلفه، وتدفع إحداهن أباها العجوز أمامها أثناء طلوعنا على أحد الجسور راجلين. محظوظون هؤلاء الصغار لأنهم سيشهدون معجزتين، معجزة الحج ومعجزة برّ الوالدين. تسيطر على هؤلاء الفتية رغبة جامحة في الانتهاء من الطواف قبل الآخرين، علّهم يحظون بفرصة للجلوس على دكة منسية في الحرم، يراقبون منها حركة الكون المصغّر التي تجلّت حول الكعبة. تبدو الكعبة عن قرب وكأنها أم حنون، تقرأ على أبنائها الذين وفدوا إليها من كل فجّ عميق آيات من القرآن الكريم كلّ ليلة، لترقيهم وتنقيهم، وكلما بكى أحدهم في حضنها، مسحَت بيديها الحانيتين على رأسه حتى ينام على صدرها، أو يستيقظ كما ولدتهُ أمه.

كلما اقتربتُ من أحد الحجاج في الطواف شممت رائحة أمنياته التي تحلّق فوق رأسه، فالذين يتمنون الموت في مكانهم ويضرعون إلى الله لكي يقبض أرواحهم في الطواف، تنبعث منهم روائح كريهة كرائحة الميتين الذين تُركوا في صحراء قاحلة منذ زمن، وأولئك الذين يدعون: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة» تفوح منهم رائحة مسك تسقط على أنفاسي كوابل عظيم، وإن لم يكن وابل فطلٌّ من الأمنيات البسيطة.

كنت أغضب في الطواف كلّما لطمني أحدهم دون قصد، وكلما دفعني آخر تساءلت في نفسي كيف سأستشعر روحانيات المكان. وبعد تأمل بسيط، أدركت أن الروحانيات لا تهبط إلا على من أدرك سرّ الكعبة، وهو الانسجام مع حركة البشر وحركة الأكوان الممتدة على صحنها الأبيض.

أغمضتُ عيني وتركت أمواج البشر تحملني إلى غير وجهة، وبعد أن تركتُ العنان للمجرّة البشرية التي غصت فيها لكي تفعل بي ما تشاء، شعرت بأنني مستلقٍ على صفحة بحيرة هادئة، وإذا بأمنياتي تغتال كل الروائح الأخرى، وتحلّق بي في أكوانٍ وجودية فتحتُ لها قلبي ورددتُ: «الله الله الله...» دون توقف، فأحسستُ بأنني في بيته الحرام حقاً.

إذا أردتَ أن تجد ذاتك فابحث عنها في وجوه الحجاج، فكل الوجوه تحمل نفس الهموم ونفس التاريخ الذي تتغير أحداثه مع انتقال الحجاج بين المشاعر المقدسة.

في الحج، توقن بأن لجميع البشر قصة واحدة، مكتوبة بلغات مختلفة، تبدأ بالخطيئة، ثم تشرع في رحلة الإيمان والبحث عن الذات. من أراد أن يجد ذاته فليبحث عن الله، فروح الإنسان هي جزء من روحه تعالى، ألم يقل: «ونفخنا فيه من روحنا» ومن يلحّ في طلب الله فإنه سيجد ذاته بالتأكيد، وليس شرطاً أن يجدها في مكّة، فالله في كل مكان. الحج رحلة محفوفة بالتعب والترقّب، تبدأُ بالأمل وتنتهي باليقين والشك. اليقين بروعة الإيمان، والشك في أهمية كل الماديات في حياتنا.

عندما لبستُ الإحرام أحسست بأنني قد عدتُ كيوم ولدتني أمي، طفلاً مجرداً من كل شيء إلا من الله. ثم منحني ذلك الإحرام أبدية روحية لا تفنى معها السعادة ولا تزول، فكلّما تحسست جسدي العاري تحت ذلك الرداء الأبيض البسيط، أيقنتُ بأنني لن أخرق الأرض ولن أبلغ الجبال طولا.

الوقوف بعرفة هو جلوس وصمت، جلوس عن الفتنة، وصمت عن اللغط، وهو اختلاء مع الذكريات بمختلف أنواعها، المكتملة والناقصة... لا شيء أقسى من ذكرى لم تكتمل، ولذلك يلح الواقفون بعرفة بالدعاء لمسح تلك الذكريات من صحائفهم الممتلئة بها. في ذلك الجلوس الصامت، يشعر الإنسان بالرضا لكونه مذنباً، فلولا الذنوب لما استشعر الإنسان لذّة المغفرة. إن ذنوب الإنسان تفرّق بينه وبين الملائكة، وكم هو جميل أن يستشعر الإنسان عِظَمَ كونه ابن من عُلّمَ الأسماء كلها، وابن الذي من أجله خُلِقَ الكون. يقول ابن عربي في تفسير قوله تعالى: «سنفرُغُ لكم أيها الثقلان» هو يفرغُ لنا منا لأنا المقصودون من العالم لا غير، فنحن روح العالم. حقاً نحن روحُ العالم التي تعصي ثم تتوب، وبذلك تكتمل إنسانيتنا البسيطة.

رأيتُ الناس تزحف، يوم رمي الجمرات، كأنها سيلٌ نقي تقي، يبحث عن الراحة في وسط الضجيج، وينشدُ البناء في وسط الدمار. يرحلُ هؤلاء إلى مكّة ليتوبوا عما مضى، أما أنا، فرحلتُ لأتوب عمّا هو آت.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 2997 - الجمعة 19 نوفمبر 2010م الموافق 13 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 12:50 م

      شكرا لك

      حج مقبول وذنب مغفور، لقد ذكرتني بمقال لي كتبته العام الماضي بعد تأديت فريضة الحج، فعلا لقد عشت معك كل الكلمات كتبتها بحق هذه الفريضة العظيمة وكما قال آية الله السيد هادي المدرسي حفظه الله ( في الحج تضيع نفسك من أجل أن تجد ربك فاذا وجدت ربك وجدت نفسك) رزقنا الله واياكم الحج في كل عام

    • زائر 3 | 10:39 ص

      رائع

      رائعٌ ماكتبت استاذ ياسر
      تقبل الله اعمالكم..
      وجعلنا في مكانكم الاعوام القادمة

    • زائر 2 | 5:47 ص

      الورد

      أولا..تقبل الله حجك..ثانيا..كلما ذكرته هو الحقيقة التي تختلج في قلب كل حاج

    • زائر 1 | 10:12 م

      بهلول

      حج مبرور و سعي مشكور و غفران مكرور و حياة كلها سرور

اقرأ ايضاً