العدد 3055 - الأحد 16 يناير 2011م الموافق 11 صفر 1432هـ

تونس ومخاطر المرحلة الانتقالية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المرحلة الانتقالية التي تمر بها تونس بعد أن خلعت الانتفاضة الشعبية العفوية الديكتاتور تعتبر الأهم لكونها ترسل إشارات إلى الداخل والمحيط الجواري والعربي. إسقاط الديكتاتور واحتواء سياسة تجفيف الينابيع تشكل خطوة في إطار إعادة تشكيل السلطة السياسية في بلد لم يعرف التعددية منذ استقلاله عن الاستعمار الفرنسي. وفشل المرحلة الانتقالية في التوصل إلى هذه الصيغة يمهد الطريق إلى الارتداد والعودة إلى نوع من الفوضى تبرر الانقضاض على الانتفاضة وتعطي شرعية دستورية للانقلاب وعسكرة النظام كما حصل في الجزائر بعد الانتخابات في تسعينات القرن الماضي وفوز القوى الإسلامية بالغالبية النيابية بتلك الدورة البرلمانية.

مخاطر الارتداد ليست مستبعدة إذا استمرت الفوضى ولم تنجح السلطة المؤقتة في تشكيل حكومة ائتلافية تضمن الأمن وتمهد الطريق إلى الاستقرار وصولاً إلى الإشراف على تنظيم انتخابات تعددية تعكس نتائجها خيارات الناس وتوجهاتهم.

الآمال الآن معقودة على مدى نجاح المرحلة الانتقالية في ضبط الانفعال الشعبي وإعادة تشكيل سلطة منتخبة تستطيع ترتيب صيغة تعددية للعلاقات تعطي مختلف القوى فرصة لتوضيح تصوراتها وبرامجها ورؤيتها. فإذا نجحت تونس في اجتياز هذه الفترة الحساسة من دون فوضى تكون أعطت انطباعاً مخالفاً لكل الآراء التي تربط الحرية بانعدام الأمن.

هل تنجح تونس في تقديم النموذج المطلوب أم يكون مصير الانتفاضة مجرد تكرار لحالات مشابهة حصلت في الجزائر أو لبنان؟ ظروف الجزائر مختلفة عن تونس لكونها تعتبر من الدول الغنية في الثروات الطبيعية وتتحكم فيها نخبة من الجنرالات. وبسبب اختلاف آليات تكوين السلطة في الجزائر نجحت نخبة الجيش في ترتيب انقلاب والإطاحة بنتائج الانتخابات واعتقال النواب الإسلاميين ومطاردة القوى الموالية لهم ما أدى إلى انزلاق البلاد في حرب أهلية أسفرت عن مقتل أكثر من مئة ألف من الأبرياء. حتى الآن لم يستقر الوضع الأمني بسبب وجود بؤر عنف متنقلة وعدم نجاح السلطة في تكوين هيئة مدنية تعددية تدير الدولة بأسلوب منفتح على مختلف التيارات السياسية.

انهيار التجربة الجزائرية وفشل القوى الإسلامية في ترتيب نموذج مسالم يرضي النخبةالعسكرية وعدم تقبل الشريحة الحاكمة نتائج الانتخابات واستحقاقات التغيير كلها عوامل ساهمت في إحباط إيجابيات الخطوة التعددية وتبرير الارتداد إلى نظام حزبي شبه مغلق يعاني من انقسامات جهوية وقبائلية. وأدى فشل تجربة الجزائر إلى تكوين قناعات أيديولوجية تحذر من نظام التعددية بوصفه يعادل الفوضى والاضطراب الأمني والاقتتال الأهلي.

الأمر نفسه حصل في لبنان مع اختلاف طبيعة السلطة والآليات التي تنتج القيادة السياسية. فالديمقراطية التعددية (الطائفية والمذهبية والمناطقية) في بلاد الأرز أرسلت إلى المحيط الجواري والعربي إشارات خاطئة تربط الحرية بالفوضى والاستبداد وعدم الاستقرار. وبسبب طبيعة الحراك الفوضوي للسياسة اللبنانية ترسخت مخاوف من النموذج لكونه يؤشر إلى ضعف بنيوي وعدم قابلية المنطقة للديمقراطية.

هل وضع تونس جاهز للحرية العاقلة والتداول السلمي للسلطة والانفتاح التعددي على مختلف القوى والشرائح أم ستتحول الانتفاضة إلى نموذج إضافي يثير المخاوف لدى دول الجوار والمحيط العربي؟

ظروف تونس مختلفة بنيوياً عن لبنان والجزائر. لبنان تتكاثر في بيئته السياسية الطوائف والمذاهب، ونظامه التعددي يعتمد آليات المحاصصة ويقع جغرافياً إلى جوار «إسرائيل» ونظام حزبي يرفض التنوع والمشاركة في صوغ القرارات. وبسبب تساكن العصبيات في بلاد الأرز وتعايشها القلق وتنافسها على توزيع الحصص يعيش لبنان في حالات فوضى سياسية وعدم استقرار ما أعطى فرصة للتدخل أو الاعتداءات وساهم في إضعاف النموذج وجعله عرضة للسخرية والتهكم.

الأزمات الدائمة التي يمر بها لبنان أعطت قراءة خاطئة لفضائل التعددية وبررت نظرية الاستبداد وسمحت للقوى المنغلقة أيديولوجياً أن تتحدث عن سيئات الحرية وحسنات القمع واحتكار السلطة و«نعم إلى الأبد». كذلك أدت الحرب الأهلية في الجزائر والاقتتال بين الجيش والمعارضة وما رافقهما من فوضى واضطرابات ومجازر في القرى وأحياء المدن إلى تبرير قناعات تدعو إلى العودة إلى نظام الحزب الواحد وعسكرة السلطة وقمع الحرية ومنع الناس من تكرار خوض تجربة تعطي فرصة للتنوع والتعدد والائتلاف بين القوى المتنافرة في انتماءاتها وهوياتها.

تونس يمكن أن تشكل في حال نجاحها في تخطي إرباكات المرحلة الانتقالية ذلك النموذج المعقول والمطلوب لكسر تلك الصور النمطية السلبية عن حال الحرية وارتباطها بالفوضى وعدم الاستقرار والاضطراب الأمني كما هو وضع لبنان والجزائر. الاحتمال غير مستبعد إذا استطاعت السلطة المؤقتة ضبط مسار الانتفاضة في قنوات مدنية تعددية تعطي فرصة للتنافس انطلاقاً من برامج سياسية واضحة الأهداف والبنود.

ظروف تونس المغايرة لصورة لبنان (التكاثر العصبي الطائفي والمذهبي) والجزائر (العصبيات الجهوية والقبلية) لكونها دولة شبه متجانسة في تركيبها الديني والمذهبي ومتقاربة في نسبة نموها الاجتماعي ومستواها التعليمي. وهذه الخصوصية في حال أحسنت السلطة المؤقتة استخدامها لتطوير نموذج تعددي في المرحلة الانتقالية قد تشكل مناسبة لإنتاج تجربة تشجع جمهور دول الجوار والمحيط العربي على الأخذ بها بوصفها وصفة ناجحة لمشكلات مستعصية.

التجانس التونسي ليس عاملاً كافياً للتماسك السياسي ولكنه يعطي أفضلية للتقدم باتجاه المراهنة على احتمال ظهور نموذج معاصر يتمتع بمواصفات معقولة ترضي القوى المتنافسة على الأخذ بحسناته وإيجابياته. وهذا التجانس النسبي الذي يقوم على تعددية حزبية ونقابات مهنية وطبقة وسطى منفتحة يعتبر خطوة متقدمة قياساً بالبلدان التي تتنافس ديمقراطياً على قاعدة تعددية عصبية قبلية أو طائفية أو مذهبية أو مناطقية كما هو حال العراق مثلاً.

أنظار المحيط العربي مشدودة الآن إلى تونس، والجمهور يراقب الانفعالات والتحولات بانتظار أن تنتج تلك المتغيرات ذلك النموذج المعقول والمطلوب لكسر تلك القناعات الأيديولوجية التي تربط الحرية بالفوضى والتعددية بالاضطراب الأمني وعدم الاستقرار. فهل تنجح تونس في إنجاز هذه الرغبة العربية الشعبية أم تحبط التوقعات وتنزلق إلى بيئة منغلقة في رؤيتها وتعاملها مع الآخر والمختلف؟

الاحتمالات منعقدة على مدى نجاح السلطة المؤقتة في إنجاح انتقال البلد في فترة الانتفاضة إلى حال من الاستقرار يستوعب الاستحقاقات ويستقبل المتغيرات بمرونة وانفتاح. المرحلة الانتقالية خطيرة وحساسة وهي على قصر مدتها الزمنية تشكل ذلك المفتاح السياسي الذي يمكن أن يدخل المنطقة في طور مغاير للزمن السابق أو يؤدي إلى نوع من الارتداد عن التعددية والعودة إلى الاستبداد وعسكرة النظام.

حتى الآن تبدو الأمور سائرة في الاتجاه الصحيح من حيث الانتقال المرن لصلاحيات الرئاسة والدعوة إلى تشكيل حكومة وطنية ائتلافية وإجراء انتخابات رئاسية خلال 60 يوماً وانتخابات تشريعية تعددية في فترة لا تتعدى الشهور الستة. ونجاح السلطة المؤقتة في ترتيب عبور المرحلة الانتقالية يمكن أن يشكل بداية نمو نموذج تونسي خاص لا يستبعد أن يتحول لاحقاً إلى إطار دستوري يشجع الدول العربية على التقدم باتجاه تبنّي مفهوم العقد السياسي الذي يمهد الطريق لتنظيم المصالحة بين الدولة والمجتمع. فهل تنجح تونس من حيث فشل الغير أم تكون الانتفاضة الشعبية العفوية مجرد تجربة تضاف إلى غيرها ولا تقوى أن تتطور إلى نموذج يحتذى؟ هناك ردود كثيرة من بينها أمنية يشتاق الشارع العربي إليها وينتظرها منذ زمن بعيد.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3055 - الأحد 16 يناير 2011م الموافق 11 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:32 ص

      شكرا للكاتب

      لماذا لا تكتب لحكام العرب نصائح لتصحيح المسار قبل فوات الاون معذره للكاتب تكتبون للغير لماذا لاتضع النقاط على الحروف ولاتنظر وتنظرون بعين واحدة

    • زائر 1 | 3:46 ص

      شعب مثقف

      شاهدت مشهد على التلفاز يشير إلى خلع صورة بن علي فخرجت من تحتها صورة لبن علي فصابني هلع!!.
      التوانسة سينجحون في تغيير واقعهم بسبب الوعي السياسي والكوادر العلمية والثقافية التي حاول بن علي تغييبها لاحتكار السلطة ونهب ثروات التونسيين هو وعائلته والمقربيين، تماماً كما يفعل الحكام العرب.
      أخيراً في تونس فاز ت الثقافة على السياسة،وآه منكم أيها المثقفون العرب الجبناء، فلو في الوطن العرب مثقفون شجعان لشاهدنا لعبة الديمنو تج حاضرة الآن.

    • مواطن مستضعف | 2:37 ص

      لكيلا تتحوّل تونس ... إلى "صومالاً" ثانية ... و الأمثلة كثيرة!!

      يتحتّم على كافة التوانسة وضع حد للمعارك الدائرة قبل كل شيء!!
      حفظ الله تونس و أهلها من كل سوء و مكروه.

اقرأ ايضاً