العدد 3065 - الأربعاء 26 يناير 2011م الموافق 21 صفر 1432هـ

البحرين في ذاكرة فؤاد إسحاق الخوري

قبل وفاته بيومين في العام 2003، سلّم المفكر اللبنانيُّ الراحل فؤاد إسحاق الخوري مسودة كتابه الأخير إلى زوجته سونيا خوري، فلعله أحسّ بنفاد أيامه واقتراب الأجل حين قال لها: حان دورك الآن لمراجعته وإكمال المشوار حتى طباعته.

لم يكن ذلك الكتاب سوى مذكراته التي لم تأت كأيِّ سيرةٍ ذاتيةٍ بقالبها التقليدي، فهي لا تتعدى مئتي صفحةٍ من القطع المتوسط كما أرادها أن تكون بسيطةً لاجتذاب القارئ العربي، كذلك فإنه أرادَ من وراء سردِ بعض محطاتِ حياته كأنثروبولوجي؛ أن تكون سيرةً مهنيةً للمهتمين في «الأنثروبولوجيا»، تخصصه الذي يثير الضحك والتهكم عندما يسأل عنه الآخرون فيستخفون دراسةً كهذه حينما يجيبهم بأنها تركز على الأنماط الثقافية ومقارنتها، وأحياناً يظنون أنها كلمةٌ غريبة إذا لم تنجح محاولاته المضنية لتعريفه، فيقوم بتقريبه لأذهانهم عبر تصنيفه كتخصصٍ علميٍ مهمته التعرف على أصول الجماعات والأفراد عن طريق دراسة أبعاد جماجمهم، وهو ما اشتهر به يوم كان طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث كان يقيس أبعاد جماجم أصدقائه ثم يرجع إلى جدولٍ إحصائيٍ أعدّه أستاذان أجنبيان في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي على الجماعات التي تعيش في الشرق الأوسط، ثم يستخلص نتائج قياساته ليكشف لهم عن أصولهم الإثنية ويمازحهم وهو يقارن بين هوياتهم الفعلية وأصولهم البعيدة.

إثارة تخصصه للضحك، جعلت من الضحكة التي يعتقد أنها كسلوكٍ بشريٍ له بناءٌ خاصٌ في الثقافة العربية رفيقةً له، فقام بسرد مشاهداته كأنثروبولوجيٍ لمواقف لايزال بعضها مدعاةً للضحك في ذاكرته، وهذا ما دفعه لأن يأتي لزوجته وأولاده كأنما وجد ضالته ليخبرهم بأنه سيطلق على كتابه الأخير وسيرته التي عمل على إعدادها في سنواتٍ عنوان: دعوةٌ إلى الضحك - An Invitation to Laughter.

عاش المفكر الراحل في العقدين الأخيرين من حياته في سباقٍ مع الزمن بعدما اكتشف إصابته بمرض باركنسون أو ما يعرف بالرعاش في العام 1987م، ولأنه كان يعي أنه مرضٌ مزمنٌ ولابد من التعايش معه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإنه لم يتوقف عن الكتابة أو إعداد الأوراق العلمية والدراسات، فكان يقول لطبيبه الخاص الذي يزوره كل ستة أشهر: هل سأكون على ما يرام لسنةٍ أخرى؟ لدي كتابٌ أودّ إنهاءه!. ولكن التدهور التدريجي لحالته جعله يفضل العزلة بعد أن عجز الدواء عن إخفاء آثار مرضه الذي تصرح زوجته في مقدمة الكتاب بحيرتها في معرفة مشاعر زوجها الحقيقية تجاه بعض الأحداث التي جرت له قبل إصابته بالمرض، فلربما ألقى بظلاله على مزاجه عند كتابته لهذه المذكرات!

يبقى أن الخوري تحدى وضعه الخاص بكل ما أوتي من وسيلةٍ مع اعترافه بأنه يتعرض لنوبةٍ من التقلبات والقلق، ولكنه يصر على أنه رجلٌ سعيدٌ ومتفائلٌ وإيجابي، بمقدوره أن يطردَ أحماله السلبية بتذكر طفولته أو المواقف المضحكة التي خبرها بينما كان في مهمةٍ أكاديميةٍ لممارسة مهنته كأنثربولوجي، ورغم أنه مسيحي؛ إلا أنه يحفظ كثيراً من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية.

تقول زوجته إنه كان دائم التلاوة للآية الكريمة: (واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور)، وقد قام بتعليقها في لوحةٍ لتكون حاضرةً أمامه، ربما لما في الآية من دعوةٍ لتحمل ما يسوقه القدر.

الخليج والبحرين

ابتعث الخوري لكثيرٍ من الدول لإجراء الدراسات الميدانية مثل اليمن وعمان والسعودية ودولٍ عربيةٍ أخرى فضلاً عن بعض الأجزاء من إفريقيا، إلا أن البحرين كانت واحدةً من أهم محطاته المهنية، فبإزاء عشرات الدراسات الأخرى، تبقى البحرين هي الدولة الوحيدة بعد وطنه الأم التي أصدر عنها كتاباً، وهو يتذكر هذه اللحظات فيقول: «أحببت البحرين وشعبها، فأردت أن أكتب كتاباً عن هذا البلد لأعبر عن مودتي دون التعارض مع صدقيتي المهنية»، فجاء كتابه: القبيلة والدولة في البحرين، هو الثالث في القائمة من حيث الأقدمية في قائمةٍ طويلةٍ تتسع لأربعة عشر كتاباً حين صدرت نسخته الانجليزية بواسطة مطبعة جامعة شيكاغو في العام 1980م، ثم أعقبته النسخة العربية التي أصدرها معهد الإنماء العربي العام 1983م.

توجهت عينا الخوري نحو الخليج بصورةٍ عامةٍ بعد أن كانت مخرجات بحثه الذي أجراه على شرائح المجتمع البيروتي وضواحيه قد أعطته نتيجةً مفادها أن الوضع الاقتصادي الجيد الذي تمتع به اللبنانيون لمدة عقدين قبل انفجار الحرب الأهلية، عائدٌ بشكلٍ رئيسيٍ لعملهم أو استثمارهم في دول الخليج النفطية، فالعشرات من اللبنانيين زحفوا للعمل والاستثمار في الخليج من مختلف المستويات الأكاديمية والمهنية آنذاك.

التفت الخوري إلى وجود إحدى الطالبات من الخليج وتحديداً من البحرين، كانت تلك هي الشيخة هند بنت راشد آل خليفة، وفي إحدى المرات تمت دعوته لزيارةٍ عائليةٍ، وكانت أمها ترعى المتحف وتهتم بالفولكلور حسبما يذكر الخوري، وقد وجدها تتوافر على ثقافةٍ واطلاعٍ واسعين في الفن والشعر والآثار والموسيقى، مما جعله يخرج وهو يحمل قناعةً مغايرةً في أن العباءة السوداء التي تلبسها المرأة العربية أمام الملأ تخفي تحتها ما يستحق الإعجاب، وعندما قال لها ذلك، ردت عليه بكل دماثة: إنها قناعٌ من الأقنعة التي يلبسها الجميع.

عزم الخوري على إجراء البحث عن البحرين خصوصاً، فقام بتقديم المقترحات الأولية سعياً لتوفير الدعم المالي اللازم، ثم جاء إلى البحرين في العام 1974م مع عائلته في زيارةٍ قصيرةٍ قلبت تصوره عن البلد التي كان يعتقد أنها مازالت تعكس الصورة النمطية لمناطق الصحراء التي تحرقها الشمس الماحقة فتسمر جلود ووجوه قاطنيها مع سمائها المغبرة وسواحلها الرملية، لكن هذه الصورة تلاشت تماماً عندما وطأت قدماه فندق الخليج الفخم الذي لايزال موجوداً حتى الآن.


الخريجون والعلماء

مكث الخوري لمدة أسبوعين في الفندق في انتظار إنهاء إجراءات إقامته، والتقى بدايةً بمن يطلقون على أنفسهم «الخريجون»، وهم عددٌ من الشباب الذين تخرجوا من جامعات مصر وسورية والعراق وجامعات أميركا وبريطانيا، ويقول عنهم إنهم جاؤوا من مختلف المشارب الفكرية والأيديولوجية إلا أن نقاشاتهم دائماً ما كانت تدور في جوٍ من الألفة، ولا ريب أن التسمية كانت رائجةً في ذلك الوقت مما حدا بالدولة أن تشرف على بناء نادٍ خاصٍ بهم في العام 1976م أطلق عليه «نادي الخريجين» كما هو معروفٌ الآن، وأعتقد أنّ هذا ما دفع بالخوري لعنونة الفصل العاشر الذي تحدث فيه عن البحرين من مذكراته بـ «االخريجون والعلماء في البحرينAlumni and ‘ulama in Bahrain-».

ظلّ الخريجون هم الجماعة التي يرجع لها الخوري عند طلبه المساعدة، فهم أعانوه على إيجاد السكن المناسب وأتاحوا له فرصة اللقاء مع كبار موظفي الدولة، كما ساعدوه على تجميع قاعدة البيانات التي جمعها في مسحه لكثيرٍ من المناطق وعند بحثه في الأراشيف، كما وفروا له الصحبة الطيبة التي ظلّ يستذكر منها نزهته معهم في رحلات «الحداق» الليلية أو مرافقتهم له في العديد من الأنشطة والفعاليات الشخصية والجماعية كالحفلات الخاصة أو حلقات الذكر والمجالس الحسينية.

الشرطي المتقاعد

كان الخوري دائم التردد على مجلس وزير الداخلية في ذلك الوقت الشيخ خالد بن محمد آل خليفة، ويذكر أنه في أواسط السبعينيات سجلت المحاكم ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق والزواج الثاني والزواج من الفتيات اللاتي يصغرن أزواجهنّ بفارقٍ عمريٍ كبير، وفي أحد الأيام وجد المجلس مكتظاً والنقاش يحتدم حول زواج البحرينيين الكبار في السن من فتيات إحدى الدول العربية، فلما جلس الخوري أخبره الشيخ خالد بأنهم يتحدثون عن هذا الموضوع تحديداً، ثم أشار إلى أحد الجالسين وسأله: هذا الشرطيّ المتقاعد يبلغ من العمر خمسةً وستين عاماً وهو يريد الزواج من فتاةٍ في الثامنة عشرة، على الرغم من أنه تزوج مرتين ولديه أولادٌ كثر، قل لي (...) هل من الجيد صحياً أن يتزوج رجلٌ في مثل سنه فتاةً في هذا العمر؟

رد الخوري: الحب في يد الله، أما من الناحية البيولوجية، فإن خصوبة المرأة تنتهي في عمر الخمسين، بينما عند الرجل فتظل حتى السبعين، ولكن الزواج ليس مسألة أولادٍ فقط، إنها مسألة صحبة وفهم مشترك، ولكنّ الزواج من فتاةٍ صغيرةٍ مثل الزواج من ابنتك، إنه زواجٌ لجيلٍ آخر.

ما إن سمع الشيخ خالد ذلك حتى صاح بالشرطي: اسمع، اسمع، ولكن الشرطي أجاب من غير اكتراثٍ أو تأثرٍ لما دار في النقاش: والله يا شيخ خالد، لأتزوجنّها مادمت قادراً على ذلك.


ملا عيسى وملا فؤاد

شارك الخوري في مختلف الفعاليات الاجتماعية والدينية، وكان البحرينيون بمختلف أطيافهم يرحبون بوجوده بينهم مما سهل عليه فرصة المشاهدة عن قرب واتساع الدائرة البحثية والاجتماعية على حدٍ سواءٍ، فقابل العلماء المنحدرين من جميع المستويات في الشهرة والقواعد الجماهيرية، إضافةً للملالي حسب التعبير الدارج، الذين كانوا لا يحصون لكثرتهم، ويتوزعون على جميع المناطق.

من بين من التقاهم الخوري، ظلّ الملا عيسى عالقاً بذاكرته، على الرغم من أنه لم يكن بارزاً ولا معروفاً، لكنه يتميز بمقدرته على تقديم ما جرى في عاشوراء بشكلٍ جميل.

نمت صداقةٌ من نوعٍ خاصٍ بين الخوري وملا عيسى، وفي جلساتهم الخاصة، لا يتأطر الحديث في الأمور الدينية أو التاريخية فحسب، بل يتعداه للأسئلة التي يطرحها الملا عيسى على الخوري بخصوص التاريخ العربي القديم ويتدرج حتى يصل لأمور الاقتصاد وما يتحكم بالسوق من الأمور المالية والأسهم والموازنة وأسعار العملات، وفي اليوم التالي يقوم الملا عيسى بكلِّ مهارةٍ بتطعيم خطبه الدينية التي يكون من ضمن الحاضرين فيها الخوري نفسه، ببعض ما دار في نقاشاتهم السابقة، حتى لقب بعض الخريجين الخوري بملا فؤاد، لفرط ما أخذت بلبه متابعة ومشاهدة الشعائر العاشورائية وحفظه لمحكيات واقعة كربلاء.

تبادل الملا عيسى والخوري الزيارات الخاصة، مرةً في منزله وأخرى في منزل الملا الذي كلما جاء الخوري إليه تقوم زوجته بالوقوف خلف الباب وتسأل عن الزائر، ثم تقوم بفتح الباب عن طريق سحبها لحبلٍ مربوطٍ في مزلاجه، فيعبر الزوار إلى المجلس وهي تظل خلف الباب حتى تستتر عن عيونهم، بينما كان الملا يزور الخوري فتفتح له زوجته وتقوده حتى غرفة الجلوس.

كان الخوري كلما زار ملا عيسى يلقى نفس المعاملة المستغربة، تقف زوجة الملا خلف الباب وتسأل عن الطارق، ثم تسحب الباب بالحبل وتأمره بالدخول من غير أن تسلم عليه أو ترى وجهه، فأسر ذلك في نفسه، وفي المرة التي زاره ملا عيسى، لم يدع الخوري زوجته تستقبل الملا، وإنما جاء هو بنفسه ليستقبله وأوصله لغرفة الجلوس.

استغرب ملا عيسى معاملة الخوري مما لم تجر عليه العادة فاستفسر عن عائلته التي يعتقد أنهم ربما عادوا للبنان أو حصل لهم مكروه، ولكنه تفاجأ عندما أجابه الخوري بأنهم بخيرٍ هنا، ولكنه لن يدع زوجته تستقبله بعد الآن، لأن زوجة الملا لا تستقبله بنفس الطريقة رغم أنهم أصدقاء.

انفجر ملا عيسى ضاحكاً وتواعدا في اليوم التالي، فجاء الخوري لبيت الملا، ولما فتح الباب وجد زوجة الملا تستقبله وهي ترتدي العباءة والنقاب على وجهها، فقام الخوري بمدّ يده للمصافحة، فما كان من المسكينة إلا أن سحبت يديها وأخفتهما تحت عباءتها وهي تستغفر وتحوقل، فأسرع الخوري بالدخول لغرفة الضيوف فوجد الملا ينتظره وهو يضحك.


للدانةِ تحية

بعدما ينيف على الربع قرنٍ من حصول هذه المواقف، بقي الخوري يتذكرها بصفائها ليستطعمها في كبره وهو يخطّ أيامه الخوالي على أوراقٍ يعلم أن الزمن لن يدعه يعيش حتى تطبع أو تنشر، والأسماء التي كتبها في مذكراته يمكن أن تجدها في مقدمة كتابه القديم، وهذا ما يعطي دلالة واضحةً على غزارة حبه لهذا البلد الذي ظل وأهله يسطعان في ذاكرته.

وبعيداً عن الاختلاف أو الاتفاق عما جاء في كاتب القبيلة والدولة في البحرين، فإنه في مذكراته ظلّ يقول إنه لم يتعمد الإساءة لأحدٍ البتة، وتذكر زوجته في المقدمة أن المعلومات التي جمعها أيام مكوثه في البحرين تكفي لأن يصدر كتابين آخرين، لكنه اكتفى بالكتاب الذي عبأه برؤاه ومشاهداته وتوصياته التي يجدها أكثر أهمية.

لا أشك أن الخوري كان ممسكاً بمفاتيح وأبجدية المجتمع البحريني، فكان قارئاً جيداً لطلاسمه وتعقيداته التي مرّ عليها باقتضاب، وحتى في الأمور الدقيقة كالأسماء مثلاً، فإنه يبهرك حين يذكر أنه أهدى كتابه إلى الدانة، لأنه اسمٌ رائجٌ في المجتمع البحريني، هذا إضافةً لما يستبطنه ذلك من إشارةٍ إلى إرثٍ تاريخيٍ لمنطقةٍ عاشت قروناً على تجارة اللؤلؤ والنزاع على المغاصات الغنية.

وقد عبر عن سعادته عندما علم أن أحد أبناء أخيه قد أسمى ابنته دانة، هذا الاسم الذي يظلّ إيحاءهُ التاريخيّ لأهل البحرين عميقاً في القلوب، فهي من الكنوز التي كانت تقطع أنفاس أجدادنا وتصل بهم لحافة الموت قبل أن يقطفوها من القيعان البعيدة.

* ملاحظة: تمت الترجمة من النص الأصلي للكتاب بتصرفٍ من الكاتب، نظراً للضرورات اللغوية والأدبية.

العدد 3065 - الأربعاء 26 يناير 2011م الموافق 21 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً