العدد 3088 - الجمعة 18 فبراير 2011م الموافق 15 ربيع الاول 1432هـ

الإعلام الأصولي

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

قرأتُ، وأنا أتصفّح الأخبار أثناء تناولي طعام الإفطار، تعليقاً لأحد الأشخاص قال فيه إنه لم يعد يقرأ الصحف إلا نادراً، ويكفيه أن يفتح «تويتر» كل صباح ليعرف أخبار العالم. عندها رفعتُ عيني عن جهاز «الآي باد» الذي كنتُ أقرأ فيه، ونظرتُ إلى سلّة الصّحف المعلّقة على الجدار فوق سلة المهملات تماماً، فوجدتُ الصحف مازالت ملفوفة في مغلّفها البلاستيكي. واكتشفتُ لاحقاً، بأن جميع الصحف الأربع التي تصل بيتي كل صباح، مازالت مطوية في مغلّفاتها ومرميّة في المخزن منذ أكثر من شهر.

وفي الصباح نفسه قرأتُ خبر استحواذ شبكة «آي أو إل AOL» الأميركية على صحيفة «هوفينغتون بوست» بمبلغ 315 مليون دولار، حيث بدأت هوفينغتون - التي تُعدّ اليوم أشهر صحيفة إلكترونية في الولايات المتحدة - العام 2005 كمدونة ليبرالية بسيطة، ومع مرور الأيام توسّعت مواضيعها لتشمل معظم جوانب الحياة، حتى وصل عدد زوارها مؤخراً إلى أكثر من 25 مليون زائر في الشهر، وبعد انضوائها تحت لواء الشبكة الأميركية العملاقة، فإنه من المتوقع أن يزورها 100 مليون شخص شهرياً.

إن أحد أسرار نجاح صحيفة هوفينغتون، كما كتب أحد المُحللين، هو أنها ربطت جميع صفحاتها بشبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، كتويتر وفيسبوك ويوتيوب، وتغلغلت في المجتمعات الافتراضية التي يتواجد فيها الناس أكثر من تواجدهم في المجتمعات الحقيقية، وسهّلت عليهم تبادل الأخبار المنشورة على صفحاتها، ومكّنتهم من إعادة نشر مادتها الإخبارية والمعرفية على مدوناتهم وصفحاتهم الخاصة في تويتر وفيسبوك، فأقبلَ عليها الناس وكأنها اختراعٌ جديد، ولَم يعد غريباً أن يحظى مقال منشور فيها بآلاف التعليقات التي تنهال عليه من كل مكان، ما أعطى الكتابة فيها قيمة أكبر من الكتابة في الصحف الورقية.

لقد أسس الإعلام الجديد لمبادئ مهنية جديدة، كالسرعة والاختصار في طرح المعلومات التي تُقدّم للقارئ، أضف إلى ذلك أنه منح الناس القدرة على قول آرائهم بكل جرأة، وأفسح لهم المجال لمناقشة الكُتّاب والمفكرين عن طريق كبسة زر، ودون الحاجة لإرسال رسائل إلى الصحيفة لكي توصلها للكاتب.

في عالمٍ يعيش فيه أكثر من ملياري شخص على الإنترنت، لم يعد لأخبار الصحف قيمة تُذكر، لا لأنها تأتي متأخرة فقط، ولكن لأنها لا تمنح القراء فرصة للتعليق عليها والتفاعل معها، مناهضة بذلك إحدى أدبيات الألفية الجديدة المتمثلة في حريّة الرأي المُطلقة، التي دفعت بمجموعة شباب إلى قيادة ثورة شعبية عارمة من الفيسبوك.

إن هؤلاء الشباب لم يعودوا في حاجة إلى قراءة الصحف أو متابعة الفضائيات العربية لمعرفة الحقيقة، بل أصبحوا هم من يصنعون الحقيقة على مدوناتهم الشخصية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، وأصبحت الفضائيات تبحث عن هؤلاء النشطاء خلال الكوارث والأزمات لتستقي معلوماتها منهم.

فخلال ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني، كُنا نتابع أخبار الثورة من شباب في وسط ميدان التحرير، حيث كانوا يمدّون المراسلين العرب بالصور وبآخر المستجدات، ناهيك عن قيام بعضهم ببث تلك الأخبار على الإنترنت مباشرة، من قلب الحدث وساعة بساعة. وعندما حدثت كارثة سيول جدة، كُنا نتابع المُغرّدين على تويتر وهم يحذرون من سلك طريق ما أو يُبلغون عن شخص عالقٍ في مدرسة أو في منزل، حتى شعرتُ في تلك الليلة بأنني موجود في جدة، أسمعُ وأرى وأتألّم، كُل ذلك من خلال جهاز صغير وأنا مستلقٍ على سريري في البيت. وحين أُعلنَ عن تنحّي الرئيس المصري السابق، شاهدتُ الإعلان من خلال جهاز «آي فون» أثناء قيادتي للسيارة في وسط الصحراء.

وقبل أيام أجرى باراك أوباما مقابلة خاصة لموقع يوتيوب، استلم فيها 420 ألف سؤال بالصوت والصورة، من كافة أطياف المجتمع، أحدهم كان طبّاخاً في مطعم! فلقد أدرك أوباما بأن يوتيوب لم يعد موقعاً للتسلية فقط، بل أصبح أحد المصادر المعرفية لمئات الملايين من الناس، فما يوضع من مادة تصورية على يوتيوب كل ثلاثين يوماً يعادل مجموع ما أنتجته هوليوود من أفلام خلال ستين عاماً.

لم يعد للنخبوية مكانٌ في عالمنا العربي، وعلى الصحف المليئة بالديباجة والمجاملات والأخبار المُكدّسة، أن تُدرِكَ بأنها في طريقها إلى الانقراض، وبأنها لم تعد تُخاطب إلا العاملين فيها على أكثر تقدير. أما النخب الثقافية التي مازالت متوجسة من اقتحام الإعلام الجديد، فقد أصبحت لا تُسمِعُ إلا من يقبعون معها في أديرتها الفكرية الضيقة، ولم تعد تقود المجتمع وتحركه كما كانت في السابق. وفي هذا الصدد يقول المفكر السعودي عبدالله الغذامي إن مرحلة ما بعد الحداثة التي نعيشها اليوم، قد أزالت الرمزيات وألغت أهمية الأسماء الكبيرة، وأنتجت ما يُسمى بـ «ثقافة النمل» التي تعني بأن النخبة لم تعد تقود المجتمع، بل العامة هم الذين يفعلون ذلك، وعلى النخبة أن تسعى لفهم العامة والتفاعل معهم.

إن نصف سكان الوطن العربي اليوم تقع أعمارهم تحت سن الخامسة والعشرين، ومعظم هؤلاء يتعاملون مع الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي كواقع يومي، يستقصون منه المعرفة ويتواصلون من خلاله مع الآخر، ولا يمكن لوسائل الإعلام العربية التي مازالت تُمارس أصولية إعلامية مُترهّلة، أن تُخاطب هؤلاء وتؤثر في توجهاتهم وأفكارهم بأساليبها الأرثوذوكسية القديمة. فلقد اختزلت التكنولوجيا حياتنا في جهاز، وأخبارنا في جهاز، فصرنا نُحب ونكره في جهاز، ونحمل العالم بكلّ إرهاصاته في جهاز صغير نضعه في جيوبنا.

إن الزمن الذي كان الناس فيه يشترون الصحيفة من البقالة كل صباح قد انتهى، ولا بد أن يُدرك صانع القرار الإعلامي العربي بأنّه أصبح في حاجة إلى القارئ، أكثر من حاجة القارئ إليه، وأن الصفحات الإلكترونية باتت أكثر مصداقية وحيوية من الصفحات الورقية، بشرط، ألا تكون نُسخة مكررة منها.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3088 - الجمعة 18 فبراير 2011م الموافق 15 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً