العدد 3088 - الجمعة 18 فبراير 2011م الموافق 15 ربيع الاول 1432هـ

الشرق الأوسط وأزمة الانتقال من زمن إلى آخر

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المنطقة العربية - الإسلامية تغلي وتزدحم بالانتفاضات العفوية والاحتجاجات الشعبية التي تطالب بتداول السلطة وحق الاختيار والمشاركة في صنع المستقبل. وهذا الغليان سيؤدي لا محالة إلى نوع من التغيير في الشرق الأوسط. فالمنطقة في العام 2011 لن تعود إلى سابق عهدها مهما كانت العثرات والصعاب. والشرق الأوسط الذي يمر الآن في مرحلة الضياع والغموض ستتوصل شعوبه إلى توضيح الخيارات والاستقرار لاحقاً على رؤية ستكون بالطبع وبحكم قوانين التطور وسنة الحياة مغايرة لتلك الصورة النمطية التي اتصفت بها المنطقة خلال العقود الماضية.

حتى الآن تبدو الصورة البديلة ملتبسة. النظام في تونس لم يسقط ولكنه ترنح. والنظام في مصر لم يتحطم ولكنه تزعزع. والمرحلة الانتقالية التي تشهدها بلدان الشرق الأوسط تدل على وجود أزمة عميقة تتراوح بين الوحدة والانقسام ولكنها في النهاية تعكس حالات من القلق في مشهد مفتوح على احتمالات ليست بسيطة.

خطوة التغيير بدأت حتى لو كانت ملامح البدائل غير واضحة أو مكتملة. فالكل في حال من الغليان والتمرد حتى لو كانت الأسباب مختلفة نظراً لخصوصية كل بلد. فهناك تحركات في بلدان منسجمة طائفياً ودينياً، وهناك احتجاجات في بلدان منقسمة أهلياً ما يعطي سيرورة التطور هوية مضطربة في تكوينها الاجتماعي والسياسي.

الاختلاف في الأسباب والمسببات والدوافع ليس عيباً حتى لو كانت هناك مخاوف من تكاثر البدائل. البعض يراهن على تشكل شرق أوسط إسلامي، والبعض يراهن على شرق أوسط عربي، والبعض يراهن على شرق أوسط جغرافي - اقتصادي، والبعض يراهن على شرق أوسط ديمقراطي - ليبرالي. والاختلاف في التصورات والتوقعات ليس خطأ لكون المنطقة لاتزال في حال من الاضطراب والغليان ولم تستقر بعد على هوية جامعة.

دائماً المرحلة الانتقالية تكون غير واضحة المعالم وهي تحتاج إلى فترة زمنية حتى ترتسم خريطتها وتتحدد هوية اختياراتها لتعبر حقبة التحول التاريخي من ضفة إلى أخرى. الأمر نفسه حصل في أوروبا في نهاية القرن السابع عشر حين دخلت القارة في مرحلة النهوض ومرت في فترة انتقالية أطلق عليها المؤرخ الفرنسي بول هازار «أزمة الوعي الأوروبي». آنذاك كانت أوروبا أمام مفترق طرق وعليها أن تختار بين القديم والجديد حتى تجتاز المنعطف التاريخي الخطير والحاسم في تحديد هويتها والعبور من حقبة الكنيسة إلى طور الدولة.

قبل تلك الفترة كانت أوروبا تعيش في حالات من الاستكانة والخنوع والخضوع للأمر الواقع وطاعة توجيهات سلطة الكنيسة. فالبابا كان مقدساً ويمثل ظل الله على الأرض ومنه تصدر الحقيقة النهائية وهو المكلف بالتوجيه والإرشاد وتوزيع صكوك الغفران وتفسير كل شئون الكون والخلق ومجرى الحوادث، فهو العالم العارف في كل شيء ويفهم في مختلف الأمور والحقول. كان الأوروبي لا يعاني من مشكلة التفكير. الكنيسة تفكر نيابة عنه والبابا المقدس يمتلك سلطة المعرفة ويشرح للرعية ما لا تعرفه. الأرض مثلاً غير كروية ولا تدور وهي مركز الكون والصانع خلق العالم في ستة أيام والمرض عقاب من الخالق كذلك الزلازل والموت. كان الأوروبي يعيش في فضاء الخوف ويعاني من تهمة التجذيف وعقدة المدنس.

فجأة بدأ التغيير في القرن الخامس عشر وأخذت تنهال عليه قراءات وشروح وتفسيرات مضادة لتعاليم الكنيسة. الأرض كروية وهي تدور على نفسها وحول الشمس. والشمس مركز الكون وتاريخ العالم تراكم خلال ملايين السنين وهو لم يتكون في أسبوع كذلك المرض له أسبابه ويمكن علاجه والزلازل لها أسبابها والتطور له قوانينه والموت ليس عقاباً.

كان على الأوروبي أن يختار بين تفسير الكنيسة والتفسير العلمي ويبدأ بالتفكير العقلاني والخروج من دائرة الخوف والاتكال والعبور إلى روح الحرية والوعي. أخذت هذه المرحلة الانتقالية فترة 35 سنة وهي ما أطلق عليها بول هازار «أزمة الوعي الأوروبي» التي وقعت في حقبة مفارقة ما بين 1680 و1715. فهذه المرحلة الفاصلة بين النهضة الأوروبية وعصر التنوير الذي انتهى بانفجار الثورة الفرنسية الكبرى وانتقال القارة من مظلة الكنيسة إلى سلطة الدولة كانت الأكثر خطورة والأشد ازدحاماً في الاحتجاجات والتحولات والاختراعات والاكتشافات والاصطدامات لكونها أسست قواعد الانطلاق لعبور الزمن من ضفة إلى أخرى.

خلال هذه الفترة الانتقالية تخلخلت أوروبا وباتت كل الأشياء تخضع للشك وإعادة القراءة ما دفع القوى إلى الانخراط في معركة البحث عن الحقيقة والتصادم مع ركام من الشروح والتفسيرات التي بدأ الزمن يتجاوزها. فالأزمة كانت مختلطة في دوافعها وعواملها وأسبابها ومسبباتها. والانقسامات كانت متداخلة في هوياتها واختياراتها ومقاصدها. والبدائل لم تكن جاهزة ونهائية وكانت تحتاج إلى مراجعة ومغامرة حتى تستقر الأزمة على عالم مغاير في خريطته وصورته وتصوراته.

احتاج الأمر نحو 35 سنة حتى خرجت أوروبا من أزمة وعيها وبدأت تنتقل من الهويات الضيقة والانتماءات القبلية والطائفية والمذهبية ومواعظ الكنيسة وإرشادات القداسة إلى عصر المواطن والإنسان والحرية وبعدها أخذ التطور يشق طريقه من دون رادع أو واعز إلى أن بلغت أوروبا القمة.

المرحلة الانتقالية صعبة وخطيرة للغاية لأنها تتطلب مراجعة ومحاسبة قاسية وهي تحتاج إلى عقلانية تسووية تدرك المنعطفات وتتحاشى الانزلاق إلى قراءات خاطئة واستنتاجات متسرعة.

المنطقة العربية - الإسلامية تغلي في طورها الراهن وهي تعيش فضاءات مرحلة انتقالية غامضة في خطوات العبور من ضفة إلى أخرى. فالأزمة عامة وكبيرة ومتراكمة وهي نتاج متحولات جزئية غير مرئية بدأت تطرأ عليها متغيرات نوعية تحتمل الكثير من التفسيرات والتأويلات، الأمر الذي يطرح أسئلة عن طبيعة الانقلاب وظروفه وخصوصيته وهويته وانفعالاته ومضاعفاته وتداعياته. والانقلاب في عناصره التكوينية الاجتماعية لا يختلف كثيراً عن الزلازل في تكوينها الطبيعي.

الزلازل الطبيعية دائماً تأتي فجأة ومن دون مقدمات تنذر، كذلك أحياناً تحصل الزلازل الاجتماعية. والهزة لها ارتدادات وتموجات في المحيط الجغرافي كذلك يحصل في الظواهر الاجتماعية القلقة والمتأزمة. فالجزء البسيط ليس منعزلاً ولا منفصلاً عن الجوار، فهو جزء من كل. وهذا بالضبط ما حصل في تونس ومصر والجزائر وليبيا وسورية وإيران والبحرين واليمن وغيرها من مشاهد أخذت تتمظهر وتمتد وتتلاحق.

المنطقة العربية - الإسلامية تغلي وهي فجأة بدأت تزدحم بالانتفاضات والاحتجاجات من دون سابق إنذار ولا مقدمات مرئية وفي توقيت متقارب حتى لو خرجت إلى المشهد بمظاهر مختلفة ولأسباب محكومة بطبيعية المجتمع وخصوصيته وحيثياته المدنية أو معطياته الأهلية. فالاختلاف ليس مشكلة مادامت المنطقة قررت الدخول في أزمة الوعي على غرار ما ذهبت إليه أوروبا في المرحلة الانتقالية بين 1680 و1715.

أزمة الوعي العربي - الإسلامي قد تطول أو تقصر لكن خطوة الخروج من حقبة إلى أخرى اتخذت بعد سكون واستكانة وطاعة وقبول بالأمر الواقع. فاليوم يمكن الكلام عن شرق أوسط بدأ يتشكل من جديد من دون تردد أو خوف من المبالغة في التوقعات. ولكن كيف ستكون عليه صورة الشرق الأوسط الجديد وعلى ماذا ستستقر الانتفاضات وما هي الهوية البديلة لكل تلك الانتماءات والولاءات... فهذه أسئلة مربكة في تصوراتها وهي تستحق القراءة والدراسة قبل التورط في أجوبة نهائية وقطعية. المهم الآن أن أزمة الوعي بدأت حتى لو جاءت في لحظة تاريخية مغايرة عن أزمة الوعي في أوروبا في نهاية القرن السابع عشر. المهم أن تقع الأزمة وتخرج من الظلمة إلى النور وبعدها لكل حادث حديث ولكل مقام مقال.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3088 - الجمعة 18 فبراير 2011م الموافق 15 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً