العدد 3127 - الثلثاء 29 مارس 2011م الموافق 24 ربيع الثاني 1432هـ

الانتفاضات العربية ونهج الانتقائية الأيديولوجية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الانتفاضات والاحتجاجات والاعتصامات التي شهدتها المنطقة العربية وصولاً إلى إيران، شكلت مناسبة لكشف خريطة الرأي العام بشأن حقيقة المواقف السياسية من مسألة التغيير. الآراء كانت منشطرة وغير موحدة وهي توزعت على قراءات أيديولوجية وجهوية وطائفية ومذهبية وعرقية من جانب وقراءات سياسية وموضوعية وإنسانية من جانب آخر.

عدم التوافق على قراءة واحدة مسألة صحية لكونه يعطي فرصة للتفكر وإعادة تصحيح خريطة السياسة العربية وكشفها ميدانياً أمام حقائق لا يمكن تجاهلها. والاختلاف في هذا المعنى رحمة بوصفه يشكل مادة مرجعية تمتلك خصوبة تعزز أدوات التفكير ومناهج تعاملها مع وقائع ماثلة على الأرض.

حتى الآن يمكن رصد أكثر من اتجاه في أسلوب التعاطي مع الزلازل العربية وارتداداتها من المحيط إلى الخليج انتهاءً بإيران، وهي تشكل في مجموعها وحدة متناقضة يرجح في النهاية أن تستقر، بعد سجال فكري عميق وطويل، على تيار اجتهادي أكثري حين تهدأ موجات التغيير.

خلاصة التيارات يمكن ترتيبها تحت عناوين متخالفة في القراءة وهي:

- تيار دعم الانتفاضات بحماس وعاطفية ومن دون تردد أو تأخر معتبراً اللحظة نقطة تحول ستقلب التاريخ العربي وتنقله بسرعة من ضفة إلى أخرى.

- تيار أيّد الانتفاضات بتحفظ وعقلانية محاولاً أن يرى الاختلافات بين بلد وآخر ومدى تأثير تفاوت النمو في درجة التغيير بسبب خصوصية ظروف كل دولة ومحيطها الجغرافي وبيئتها الإقليمية، فهذا الاتجاه مع التغيير من دون تهور ومبالغات.

- تيار أعلن رفضه للانتفاضات كلها لاعتبارات أيديولوجية واصفاً إياها بأنها مجموعة مؤامرات تحركها قوى أجنبية بهدف زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى حتى تتقوض الدول وتتمزق وتنهار لمصلحة المشروع الأميركي.

- تيار اختار المنهج الانتقائي للتعامل مع الانتفاضات فأيد الاحتجاجات في بلدان معينة وعارضها في بلدان أخرى لأسباب مفهومة أحياناً وغامضة أحياناً أخرى.

أسوأ التيارات هو الأخير لأنه اعتمد الأسلوب الانتهازي في القراءة المزدوجة والمختلطة في تقدير المواقف، وأدى هذا النهج الوصولي بالتعامل مع الانتفاضات إلى تكوين آراء تستخدم ازدواجية في المعايير تتحايل على الوقائع في جانب وتضخمها في جانب وذلك تبعاً للحسابات الأيديولوجية الممتزجة أحياناً بالطائفية والمذهبية والتعصب والمصالح الذاتية والحزبية.

تيار ازدواجية المعايير نراه مثلاً يؤيد ويبارك المتغيرات التي حصلت في تونس ومصر ويدعم الاحتجاجات في اليمن وليبيا والأردن والمغرب في وقت يعارض الانتفاضات أو الاعتصامات في العراق وسورية وإيران. كذلك نرى في المقابل أن هناك من يؤيد التغيير في إيران والعراق وسورية ويرفض أن يحصل الأمر في اليمن والأردن والمغرب وليبيا.

هذا المنهج الانتقائي في القراءة يزرع فعلاً على الأمدين القريب والبعيد بذور فتنة طائفية سياسية تتغطى باللباس الأيديولوجي، ويؤسس لاحقاً عناصر احتقان تؤجج المشاعر المذهبية، ويرفع من سخونة الأحقاد والكراهية، ويهدد في النهاية طموحات التغيير المطلوب لدفع المنطقة نحو التقدم.

التمييز الملتبس بين نظام ونظام ومنطقة ومنطقة وشعب وشعب على أساس معايير أيديولوجية وتحالفات سياسية ومصالح حزبية ومشاعر طائفية ومذهبية يمكن اكتشافه بسهولة بمراجعة التغطيات الإعلامية للكثير من المحطات والفضائيات المعروفة أو المجهولة أو التي ظهرت فجأة على الساحة السياسية. هناك أجهزة اتبعت خط التحشيد والتهييج والحقن والتحريض والمبالغة والتضخيم في إطار قراءات سيئة في أهدافها وغاياتها في وقت تتعمد السكوت على حالات أكثر صعوبة وخطورة في مناطق وأنظمة أخرى. وهناك أجهزة وصلت إلى درجة متقدمة في الوقاحة والمراوغة والتلاعب حين أعلنت جهاراً وقوفها ضد احتجاجات واعتصامات جرت في بعض البلدان بذريعة أن هناك جهات خارجية مدسوسة تحركها أيادٍ أجنبية لإضعاف جهاز الممانعة والمقاومة والصمود والتصدي لدى هذا النظام أو ذاك.

سياسة الصيف والشتاء في لحظة واحدة تؤشر إلى نقطة لا تبشر بالخير وهي احتمال أن تتحول انتفاضات التغيير إلى أدوات تقسيم تضيف إلى مصاعب المنطقة الكثير من العثرات ما يعطل إمكانات توظيف الاحتجاجات وتحويلها إلى قوة ضغط تدفع نحو الانفتاح والتسامح وتطوير الأنظمة باتجاه يتناسب مع حاجات الناس ومتطلباتهم.

ازدواجية المعايير المعطوفة على الانتقائية الأيديولوجية في قراءة المشهد العربي الممتد وصولاً إلي مسرح إيران تشكل أسوأ الأمثلة الحية في التعامل مع قضايا الشعوب وحقوقهم وحقهم في الكسب والحياة. هذا النوع من التفكير الطائفي - المذهبي المجرور على المصالح الذاتية والحزبية والتحالفات المؤقتة، سيلعب لا شك دور الكابح في تعطيل آليات الاحتجاج وتحطيم أدواتها العفوية بغية استثمارها في حسابات تطيح بكل ما يمكن إنجازه من إصلاحات وطموحات.

الظروف الآن تقتضي عدم تسمية المحطات بأسمائها، لكن المسألة لا تحتاج إلى ذكاء للتعرف على تلك الألوان الأيديولوجية التي تعاملت مع حركات الاحتجاج بانتقائية طائفية ومذهبية أو لاعتبارات مصلحية وحزبية حين كانت تؤيد حركة التغيير في أمكنة وتحرض عليها في أمكنة أو تهاجمها بعنف وتتهمها بالعمالة للأجنبي في أمكنة.

الإيجابي في الموضوع أن الاحتجاجات من المحيط والخليج إلى إيران شكلت فعلاً مناسبة حسنة لكشف الحقائق أمام الرأي العام وإعادة فرز المحطات والفضائيات لأنها أوضحت الكثير من الملابسات الأيديولوجية وأسقطت أقنعة سياسية تدّعي الوقوف مع التغيير لكنها في حقيقة الأمر لا تريده إلا في الأمكنة التي تخالفها وترفضه وتقمعه وتتهمه بالخيانة في أمكنة تربطها معها مصالح هي أقرب إلى الانقسامات المذهبية والطائفية.

السلبي في الموضوع أن الاحتجاجات التي بدأت عفوية وشجعت على تطوير قراءات عن المشهد العربي وصولاً إلى إيران، أخذت تخضع لاستخدامات تأويلية تحرفها عن خطوطها العريضة محاولة استثمارها في مشروعات أيديولوجية ذات طابع إقليمي ومذهبي لا منطق له سوى دفع الناس نحو التصادم العنيف الذي يؤدي إلى التهلكة ويعرقل التغيير.

الانقسام على القراءة مسألة صحية أساساً، كذلك الاختلاف رحمة شرط أن يعتمد معايير موحدة في التعامل مع موضوع مشترك وهو حق الناس في التغيير، أما التلاعب بالمشاعر والعواطف وتشطيرها إلى انحيازات طائفية واصطفافات مذهبية في جانب ومقاومة الاحتجاجات والاعتصامات بذريعة الحرص على الممانعة في جانب آخر، فهذا أسوأ أنواع الانتهازية والوصولية لأنه لا يكتفي بتعطيل إمكانات التقدم بل يدفع آليات التطور إلى الوراء

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3127 - الثلثاء 29 مارس 2011م الموافق 24 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:57 ص

      common sense

      الانتفاضات يمكن النظر إليها كظواهر طبيعية. فظهورها يكشف عن الأسباب التي أخرجتها. أما التغيير فهو نتيجة حتمية تكون الظاهرة سببها.
      بحسب قانون نيوتن الأول يكون السكون للأشياء متى ما كانت حالتها الداخلية مستقرة ولا يوجد ثأثير خارجي يغير استقرارها. فعدم الاستقرار بسبب عدم التوازن الداخلي او الخارجي يقود الى التغير. فهل سمعت يا دكتور عن أحد الغى قانون التطور غير المتكافئ!!

اقرأ ايضاً