العدد 3136 - الجمعة 08 أبريل 2011م الموافق 05 جمادى الأولى 1432هـ

اشتقاق أسماء الأسماك المحلية بالمحاكاة

اللغة ظاهرة اجتماعية مهمة، عرفها الإنسان منذ بداية حياته وعجز عن تحديد نشأتها، فمنذ القدم اهتم الباحثون بنشأة اللغة في محاولة لسبر أغوار هذا الموضوع، فتناولتها الدراسات والبحوث ولم يظفر أي جانب من جوانب اللغة بالاهتمام التي ظفرت به نشأتها، ولم يتمكن الباحثون قديمًا وحديثًا من الوصول إلى يقين في هذا الأمر أو حقيقة يمكن الاعتماد عليها في تحديد الكيفية التي نشأت اللغة بها، وفشلت كل محاولاتهم فشلاً ذريعاً، وأصبح البحث في هذا المجال من الأبحاث التي لا طائل من ورائها ولا يستطيع الإنسان أن يصل إلى نتيجة علمية مقبولة في هذا المجال مما حدا بالجمعية اللغوية في باريس أن تقرر في أول نظام لها صدر عام 1866م عدم السماح بمناقشة أي بحث من البحوث يتناول أصول اللغة. ومن أهم النظريات التي وضعت لتفسير نشأة اللغة نظرية المحاكاة، وتذهب هذه النظرية إلى أن اللغة نشأت محاكاة وتقليداً لأصوات الطبيعة، كأصوات مظاهر الطبيعة وأصوات الحيوان وغيرها، ثم تطورت هذه الألفاظ شيئاً فشيئاً وارتقت تبعاً لارتقاء العقل البشري وتقدم الحضارة، وتعدد حاجات الإنسان إلى أن وصلت اللغة إلى ما هي عليه.

وفي هذا الفصل لن نتناول المحاكاة بوصفها نظرية لنشأة اللغة ولكن بوصفها وسيلة لتوليد أسماء الحيوانات بصورة عامة والأسماك بصورة خاصة وذلك باشتقاقها من الصوت الذي تصدره.


اشتقاق الأسماء بالمحاكاة

لقد كان من سنن العرب في التسمية التماس أدنى ملابسة بين الاسم وبين مسماه، وكان العربي إذا ولد له ولد سمّاه بما يراه ويسمعه مما يتفاءل به فإن رأى حجراً أو سمعه، تأول فيه الشدة والصلابة، والصبر والبقاء، وإن رأى كلباً تأول فيه الحراسة والألفة وبعد الصوت، وإن رأى نمراً تأول فيه المنعة والتيه والشكاسة، ومثلما كانت تتلمس العرب في البحث عن مسمى لأولادها كانت تتلمس في البحث عن مسمى الحيوانات والأشياء ويعتقد أن ألفاظ حكاية الصوت خاصة أول ما فكر الإنسان في الاشتقاق منها في مرحلة النشأة الأولى للغة (الثبيتي 2003).

وتعتبر نظرية المحاكاة من أقدم النظريات والتي ذهب إليها كثير من الباحثين في العصور القديمة، وقال بها فريق من علمائنا القدماء كابن جني الذي أفرد في كتابه (الخصائص) باب أسماه «باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني» حيث جاء فيه (الثبيتي 2003):

«ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعة كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك في ما بعد وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل».

ويستطرد ابن جني:

«اعلم أن هذا موضع شريف لطيف، وقد نبّه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالاعتراف بصحته والقبول. قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا صَّر، وتوهموا في صوت الباز تقطيعاً، فقالوا صرصر».

وتعرف هذه النظرية في الكتب الغربية باسم البوــ وو Bow-Wow وهذه اللفظة أي Bow-Wow هو اسم الكلب المشتق من صوته وهو كما زعموا Bow-Wow.


محاكاة ما يصدر عن الحيوان من صوت

لا يوجد أي مرجع عربي تحدث عن كيفية اشتقاق أسماء الأسماك بالمحاكاة (أو أي طريقة أخرى) لذلك سنتحدث عن طريقة اشتقاق أسماء الحيوانات بصورة عامة عن طريق المحاكاة، ومن الكتاب الذين تطرقوا لذلك بشيء من التفصيل هو الجاحظ في كتابه الحيوان (الحيوان 1982، م2 ج5 ص 286 - 287) فقد ذكر إن العرب تشتق لسائر الحيوانات التي تصوت وتصيح اسم الناطق إذا قرنوه في الذكر إلى الصامت وليس بالضرورة أن يكون الاسم المشتق من المحاكاة يطابق ما يصدره الحيوان من صوت بل يعتمد على تأويل العامة لما يسمعه من صوت يقول الجاحظ:

«فإذا تهيأ لهذه الحيوانات بعض من الحروف مقدار ما تفضل به على مقادير الأصناف الباقية كان أولى بهذا الاسم عندهم. فلما تهيأ للقطاة ثلاثة أحرف: قاف وطاء وألف فكان ذلك هو صوتها، سموها بصوتها. ثم زعموا إنها صادقه في تسمية نفسها قطا».

ويقول الميداني في كتابه «مجمع الأمثال» فلذلك كنتها العرب باسم «الصدوق» وقالوا في الأمثال «أصدق من قطاة» ذلك أنها تقول في تغريدها «قطا قطا». وقد اشتهرت بذلك عند العرب قال النابغة الذبياني:

تدعوا قطا وبه تدعي إذا نسبت

يا صدقها حين تدعوها فتنتسب

وقال الجاحظ أيضاً في كتابه الحيوان:

وتهيأ للشاة قولها «ما ما»، فسموها بذلك، قال أبو عباد النميري لخوينق العمري ورآه قد أشترى أضحية فقال:

يا ذابـح المامات فعلت فعـل الجفاةِ

أما رحمت من المو ت يا خُـوينق شاتي

والصبيان هم الذين يسمون الشاة «ما ما» كأنهم سموها بالذي سمعوا منها حيث جهلوا اسمها.

ويلاحظ من قول الجاحظ أن العرب قد تصرفوا في الاسـم وأتوا به جمعـاً «مامات». وفي الوقت الحاضر يسمي الأطفال الشاة «إمباعه» هكذا تهيأ لهم صوتها.

ويقول الجاحظ أيضاً، والكلب تهيأ له حروف مثل: « عِف عِف» و «وَووَو» وتهيأ للغراب القاف.

وهناك عدد من الطيور التي سميت بالصوت الذي تصدره مثل الغاق والواق. وفي اللغة الإنجليزية هناك الطائر المسمى (Cuckoo) سمي بحكاية صوته.


أسماء التورية عند العامة

هناك عدد من الأسماء المحلية التي اشتقت من أصوات الحيوانات منها أسماء عرفت بأسماء التورية ومنهم من أسماها «لغة الأطفال» وهي أسماء ثانوية للحيوانات، وبالإضافة لأسماء التورية تلك هناك أسماء أساسية لطيور وأسماك اشتقتها العامة بالمحاكاة.

من أسماء التورية عند العامة لفظة «تيتي» التي وردت في المثل الشعبي «تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي» الذي ذكره الناصري في كتابه «موسوعة الأمثال» (الناصري، ص271)، وكذلك وردت في أهازيج شعبية مثل «چيف (كيف) تنكد (تنقد) التيتي، چيف (كيف) تشرب الأمبو»، ويقول الناصري إن «التيتي» هي الدجاجة وذلك إنها تنادي فراخها بصوت أولوه «تن تن» فحولت إلى تين ثم إلى «تي»، بعدها عرفت الدجاجة باسم التورية «تيتي» وتنادى به أو يقال «تاي تاي» (البعض ينادي الدجاجة « تالي تالي»).

وذكر الناصري في «موسوعة الأمثال» المثل «الحق جزور ما هو تيس وامباع» وامباع هو الخروف وقد أخذ من بعبعته. ومن أسماء التورية أيضا اسم القط الذي يسمى عند الأطفال «العوة» وقد اشتق ذلك من عوائه.

أسماء الأسماك المحلية المشتقة بالمحاكاة

عادة لا يتم الاستغراب عند الحديث عن اشتقاق أسماء طيور بالمحاكاة فالكل يسمع تغريدها والعديد من يجلس ليستمع لتغريدها، ولكن هل الأسماك تغرد كالطيور؟. في الواقع أن عدد أسماء الأسماك المحلية التي اشتقت بالمحاكاة يفوق بكثير أسماء الطيور المشتقة بالمحاكاة، قد تبدو للوهلة الأولى أن هذه ظاهرة غريبة وربما حصرية على منطقتنا ولكن هذه الظاهرة موجودة في ثقافات أخرى فهناك عدد كبير نسبياً من أسماء الأسماك باللغة الإنجليزية أو حتى أسماء علمية اشتقت بالمحاكاة. إن ندرة سماع أصوات الأسماك يجعل سماع صوت لسمكة ما ميزة حصرية لهذه السمكة ولهذا السبب يشتق لهذه الأسماك المصوتة أسماء بحسب نوعية الصوت التي تصدره.

وقد كان أرسطو أول من ذكر أسماء اسماك اشتقت بالمحاكاة. أما أول دراسة علمية لصوت الأسماك فقد كانت لباحثين هما Marie Fish and William Mowbray. وقد كانت الحربية البحرية الأمريكية قد استعانت بهما إبان الحرب العالمية الثانية لدراسة الأصوات الغريبة التي تسمع تحت الماء وذلك لأغراض عسكرية، وقد اعتبرت دراستهما سرية للغاية وفي عام 1960م تم جعل جميع شرائط التسجيل متاحة للجميع، وقد أصدر الباحثين في عام 1970م أول مرجع عن أصوات الأسماك في كتابهما Sounds of Western North Atlantic fishes، أما في الوقت الراهن فأرشيف تسجيلات أصوات الأسماك متوفر مجاناً للجميع على موقع fishbase.org. وقد أصبح هناك فرع خاص من علم الأسماك مخصصاً لدراسة أصوات الأسماك.


أنواع أصوات الأسماك

تصدر الأسماك أصواتاً بطريقتين أساسيتين الأولى عن طريق حك أسنانها أو اشواك زعانفها أو عضامها أما الطريقة الثانية فعن طريق عضو خاص يسمى المثانة الغازية وهذا عضو تستخدمه السمكة لتتمكن من الطفو في الماء وتقليل من الطاقة اللازمة لعملية السباحة، وتستخدم العديد من الأسماك هذه المثانة لإصدار أصوات، وفي أنواع من الأسماك تحاط هذه المثانة الغازية بعضلات خاصة تمكن السمكة من إصدار أصوات مختلفة عن خيرها.

وقد اشتقت العامة أسماء لأسماك من نوعية الصوت الصادر منها فهناك أصوات تصدر نقيقاً وأخرى تصدر نقيراً ومنها ما تصدر صوتاً كالأنين وغيرها من الأصوات التي سنتناولها هنا، ومن بين هذه الأسماك المصوتة هناك أسماك عديمة السفط وأسماك لها سفط.


أبو زيزي أو الونان

«أبو زيزي» أو «وز» أو «حصان البحر» أو «ونان لچسول» جميعها أسماء تخص مجموعة من الأسماك عديمة السفط لها شكل غريب ولها رأس يشبه رأس الحصان ولذلك سميت حصان البحر (seahorse). ويطلق الاسم «ونان لچسول» على مجموعة أخرى من الأسماك من نفس عائلة حصان البحر تسمى «زمارات البحر» والمفرد «زمارة البحر» وهو ترجمة الاسم الإنجليزي (pipefish) وقد سميت بذلك لأنها تشبه الزمارة أو الأنبوب وقد ترجمت في قاموس «المورد» بالأسماء: سمك أنبوبي وأبو زمارة.

وقد اشتهرت كلا المجموعتين من الأسماك السابقة أنها تصدر صوتاً تقارب من صوت الأنين أو الطنين وقد وصف جرجس بطرس صوت هذه الأسماك في كتابه «استراتيجية صيد الأسماك» بقوله أنها «تصدر أصواتاً رتيبة قريبة من صوت الطنبور». ولذلك سميت هذه الأسماك «ونان لچسول»، ومنها كذلك الاسم أبو زيزي، وجاء في لسان العرب « زي زي : حكاية صوت الجن .. تسمع للجن به زي زيا»، وليس من الغريب أن يشبه صوت هذه الأسماك بصوت الجن فهي تختبئ بين الشقوق وتبدأ بإصدار الصوت. وقد كان الغاصة قديماً يخافون هذه السمكة لأنهم يقولون أنها تضرب الغائص في عينه ولذلك قالوا في الأمثال «أبو زيزي ما يدور إلا العيون»

العدد 3136 - الجمعة 08 أبريل 2011م الموافق 05 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً