العدد 2450 - الخميس 21 مايو 2009م الموافق 26 جمادى الأولى 1430هـ

هل انتهى «الإسلام السياسي» كما تبشر الكتابات الغربية؟

كان الباحث الفرنسي «أوليفييه روا» أول من بشر بـ»ما بعد الإسلام السياسي»، وذلك في كتابه «فشل الإسلام السياسي» الصادر في العام 1992، ثم جاء بعده زميله الفرنسي أيضا «جيل كيبيل» فطور المفهوم في كتابه «جهاد... انتشار وانحسار الإسلام السياسي»، وقارن فيه تجربة الإسلام السياسي أو «الإسلاموية» بالتجربة الشيوعية، فالإسلاميون فيهم ثوريون وجدد مثل الشيوعيين، ثم عاد «أوليفييه روا» وتلميذه السويسري «باتريك هاني» لتطوير الأطروحة بالحديث عن تحول السياسي لاجتماعي، في هذا أصدر «روا» كتابه المهم «الإسلام المعولم»، بينما أصدر هاني كتابه الذي لا يقل أهمية «إسلام السوق». على جانب آخر، كان «فرانسوا بورجا» أحد أبرز المختصين الفرنسيين أيضا في الإسلام السياسي يصر على رفض الأطروحة والمفهوم، ويعتبر الإسلام السياسي حركة هوية، ويراها مرحلة جديدة في مواجهة الاستعمار مثلما طرح في كتابه ذائع الصيت «الإسلام السياسي صوت الجنوب»، بينما ظل عالم الاجتماع «آلان روسيون» الضلع الفرنسي الرابع في هذا الحقل ينتقد هذه الأطروحة من دون أن يتبنى أطروحة بديلة، وكان أقوى ما قدمه في ذلك مقالته «في انتظار ما بعد الإسلاموية».

ما بعد الإسلاموية

اتفق مع آلان روسيون، وخاصة في رفضه أن تفسر مقولة «ما بعد الإسلاموية» جميع الظواهر الدينية والسياسية الحالية في العالم الإسلامي، وأن عموميتها من شأنها أن تخفي ما يمتاز به مسار المجتمعات الإسلامية من تعقيد وتركيب، لكنني أفضل لو نؤسس لمنظور مختلف في رفض فكرة القطع بنهاية الإسلام السياسي، أي منظور يتأسس على خصوصية «ما» للباحث العربي المسلم يمكن أن يكتشف في ضوئها اختلاف منهج النظر في قضية السياسة، وموقعها في مشروع الحركة الإسلامية.

فالحق أن هناك مشكلة لدى جل الباحثين، وخاصة الغربيين منهم في فهم معنى السياسة ومنطقها لدى الحركة الإسلامية؛ فهي لا تتأسس وفق برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي محدد، كما لدى الحركات والأحزاب السياسية التقليدية، وإنما وفق منطق مغاير، فهي من لوازم الدعوة وضروراتها المركزية، والدعوة تتطلبها كأداة للتواصل الجماهيري، ثم كقناة لتدافع القيم؛ استكمالا للمشروع الدعوي، غير أن الذي يحدث هو أن السياسة حين تتمكن وتتجذر في أي مشروع بما فيه مشروع الحركة الإسلامية تفرض منطقها الخاص، وتفعل نسقها الطبيعي القائم على التعبوية والمصلحة، والتدافع، والخلاف.

بالمعنى الأخير، يمكن القول إن المشروع الإسلامي خسر على مستويات مختلفة الوصول للسلطة، ثم اقتراح نمط أو شكل جديد للسلطة، إضافة إلى تنازلات مؤلمة على مستويات مختلفة، دفعها في رحلته من أجل الوصول للسلطة؛ لكن على مستوى فكرة السياسة، أو البعد السياسي في الحركة الإسلامية أخشى أن يكون هناك خطأ كبير في إطلاق القول بـ «نهاية الإسلام السياسي» أو «ما بعد الإسلاموية» مرده الأساسي التعميم، وعدم إدراك تركيبة الحال الإسلامية وتعقيدها.


تعددية مفرطة في الحال الإسلامية

يلحظ المراقب أن هناك تعددية مفرطة في الحال الإسلامية ليس في اتساعها، وتعدد أطرها الفاعلة فقط، بل وفي داخل الإطار الواحد؛ فمعظم الدراسات التي طرحت الفكرة (نهاية الإسلام السياسي)، أو تأثرت بها اشتغلت على حال الإخوان المسلمين، وما تفرع عن مدرستهم، وهي جماعة عتيقة، وذات تراث في العمل السياسي، وأنهكتها السياسة بالمعنى البرغماتي، وهو ما لا يمكن تعميمه على بقية الحال الإسلامية التي يتعدد فيها الفاعلون، ولا تفتأ تستقبل تيارات وأفكارا وتنظيمات بصورة دورية. بل وربما لا يصح التعميم حتى في حالة الفاعل الإسلامي الذي يبدو ذا وجوه إسلامية متعددة بتعدد موضوعات اهتمامه، وقضايا اشتغاله، بل ومراحله التاريخية.

وأضرب مثالا لذلك بالمفكر الكويتي عبد الله النفيسي الذي بدأ إخوانيا تجديديا يقف على يسار الإخوان، ثم هو الآن مفكر قاعدي بامتياز إلى الحد الذي جعل البعض ينظر إليه كمنظر لتنظيم «القاعدة»! إن للنفيسي وجوها متعددة من يسار الإخوان إلى تخوم «القاعدة»، وهو فيها كلها صادق غير مدع! فإلى الإسلام السياسي ينتمي أم إلى ما بعده؟!

نعم، ربما تنطبق فكرة نهاية الإسلام السياسي على تنظيمات ومدارس الإسلام السياسي التي انتهت بعد ممارسة وخبرة سياسية (كما في الإخوان المسلمين) إلى مشروع سياسي يتوافق مع مشروع الدولة الوطنية الحديثة؛ لكن الأمر لا ينطبق على مدارس وتنظيمات إسلامية أخرى تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه بـ»السياسوية الإسلامية الكامنة أو المنتظرة» ونموذجها الأبرز في السلفية؛ فهي تعتزل السياسة ليس رفضا لها (على الطريقة الصوفية)؛ وإنما لأن اللحظة التاريخية لا تواتي نموذجها السياسي المنشود، أو لأنها ليست على استعداد لدفع كلفة وتنازلات الدخول في السياسة.

الحق أن أبناء «السياسوية الإسلامية الكامنة» يمثلون قطاعا بالغ الأهمية والانتشار والتأثير في حركات الإسلام السياسي، بل حتى داخل الحركات التي يمكن القول إنه ينطبق عليها مقولة ما بعد الإسلام السياسي؛ إنه القطاع الذي له موقف ورغبة في السياسة، ولكن يمتنع عن ممارستها، كما هو في الجناح التنظيمي للحركة الإخوانية.


التيار السلفي القادم

تستبعد أطروحة «ما بعد الإسلام السياسي» تيارا فاعلا في الحالة الإسلامية السياسية، أعنى به السلفية؛ فاللحظة القادمة سلفية بامتياز، والسلفية هي سيدة الزمن القادم؛ أعتقد ذلك وكتبته قبل سنوات، يوما بعد يوم يتأكد أننا بإزاء تيار سلفي يتمتع بطاقة أيديولوجية عالية، وبقدرة مذهلة على الاستقطاب والتعبئة المذهبية، في مقابل إنهاك للمشروع الإخواني دفع به إلى حالة التعايش، وهو تيار يجتاح كل الطبقات والشرائح، بل والجامعات والمعاهد الدينية مثل الأزهر، والإخوان المسلمين أنفسهم الذين تكون داخلهم تيار سلفي كبير ومؤثر.

تتمتع السلفية ببساطة وسهولة واتساق يناسب شرائح مختلفة يصعب على الأيديولوجيات الإسلامية الأخرى اختراقها، كما تتناسب وحالة الاغتراب التي صنعها الواقع المشوه، والعجز عن فهم هذا الواقع، ثم هي تعطي معتنقيها قدرة مذهلة للقفز على الواقع، والعودة إلى أصل متخيل (فهم زمن السلف الصالح) بما ساعد في أن تكون الأكثر انتشارا في أوروبا، وفي الأخير - وهذا هو المهم - تظل السلفية بريئة من السياسة وبرغماتيتها، ولكنها ليست بريئة من القابلية للتسييس.

أتصور أن أيا من التحولات التي تقول بها أطروحة ما بعد الإسلام السياسي قد لا ينطبق على الظاهرة السلفية؛ فنحن مع الظاهرة السلفية بإزاء نصوصية وتقليدية تعتمد المنهجيات التراثية (إذا كنت مدعيا فالدليل، وإذا كنت راويا فالصحة)، وتقابل ما ترصده الأطروحة من تصاعد حضور ظاهرة المثقفين الجدد، وقراءاتهم الحداثية للنصوص الدينية. وفي مقابل الحضور «النسوي»، الذي تمسك الأطروحة بخيوطه، لدينا نسوية، ولكن من نوع آخر؛ نسوية سلفية موازية ترسخ قواعد الذكورية وسلطتها، كما تفعل بعض الجمعيات والتجمعات السلفية (مثل جمعية إحياء السنة في مصر) التي تتطوع فيها ناشطات سلفيات لمساعدة رجالهن على إحياء سنة تعدد الزوجات!

وبإزاء أطروحة الانفتاح على الغرب يمكن أن نرصد السعي السلفي لبناء عالم ومجتمع مواز حتى في الغرب الذي يشهد - وهي مفارقة - أكبر مد سلفي وأقواه!

سنتوقف في رصدنا لجوانب ما يفكك أطروحة ما بعد الإسلام السياسي عند المنهجية السلفية في التعامل مع الشبكة العنكبوتية؛ من ناحية محاولة السيطرة على الإنترنت، ليس كأداة فقط، بل كفلسفة، كما نرى في مواقع السلفية (بشقيها العلمي والجهادي) التي حاولت نقل المرجعيات السلفية بآليتها وشروطها إلى فضاء الإنترنت.

وما زالت مواقع الإنترنت السلفية صامدة في الثبات على التزام الطريقة التقليدية، وما زالت تحافظ على منظومتها المعرفية التي لم تتغير كثيرا، كما جرى في الحالة الإخوانية، وفي هذه المواقع سنقف على وحدة التوثيق والتضعيف، ومحاولات للإبقاء على الطرق التقليدية في تحمل المعرفة الدينية، على رغم طبيعة هذا الفضاء الجديد، وفي هذا كله يبقى أن السلفية لم «تتورط» في ممارسة سياسية برغماتية تضطرها لمراجعة لمواقفها أو تعديلها!

الحالة الإسلامية بالغة التعدد والتعقيد بما يفرض توخي الحذر من إطلاق أطروحات ذات طابع شمولي؛ وهناك الطبقات المتوسطة والبرجوازية المتدينة التي تنتمي للمنظومة الإخوانية، والتي طورت رؤيتها للدولة الحديثة، وصارت تبحث عن حظها في السلطة، ولكن هناك أيضا تيارات سلفية، ولدت أصلا ضد مفهوم الدولة الحديثة نفسها؛ الدولة التي تحتكر السلطة والعنف والشرعية، بل والدين نفسه، وفي هذا يمكن أن نفهم مبدأ الحاكمية كرد فعل على مبدأ إطلاقية الدولة على نحو ما ظهر في الدولة الحديثة في بلادنا، أو دولة ما بعد الاستقلال التي تستمد شرعيتها من ذاتها!

هناك لدى بعض مكونات الحال الإسلامية نزوع يميني ملحوظ، وتفاعل سريع مع العولمة، وخاصة لدى الإخوان المسلمين بمدارسهم المختلفة، لكن هناك أيضا تيار آخر أقرب إلى مناهضي العولمة، كما رأينا لدى السلفيين الفرنسيين البطل الأول لاحتجاجات الضواحي الفرنسية.

هناك تيار إسلامي كبير ومتعاظم (كما يمثله الإخوان) يتحرك نحو السلطة ويراها مفتاحا لكل تغيير، لكن ثمة تيار آخر يبدو ضعيفا، ولكنه مهم (كما في المدرسة السلفية في الإسكندرية مثلا) يرى أن مشروعا إسلاميا حقيقيا لا يمكن ولا ينبغي له أن يرتبط في هذه اللحظة بسلطة.

ربما ليس لهذا التيار الذي يفك الارتباط بين المشروع الإسلامي، وبين السلطة والدولة اجتهاد فكري متماسك في هذا، لكني أتوقع أن يحدث تطور في اتجاه يقوم ليس على الاستيلاء على السلطة، وإنما تحييدها عن الفضاء الديني، وعدم الحاجة إليها، والمرشح لإنجاز هذا التحول هو التيار السلفي إذا تطور معرفيا، وانفتح على أفكار اليسار، ومناهضة العولمة، وتعمق في فهم الدولة الحديثة.


مأزق تقسم الإسلام السياسي

إن تقسيم الإسلام السياسي وما بعده يبدو أمام مأزق كبير، وخاصة إذا فهمنا أن الإسلام السياسي في جزء منه هو تمرد على الدولة الحديثة برمتها؛ تمرد على حاكمية هذه الدولة وإطلاقيتها، وتمرد على تطبيقاتها القسرية للحداثة الغربية؛ لذا سيظل هناك دائما إسلام سياسي احتجاجي خارج فكرة الدمج داخل هذه الدولة الحديثة، وسيظل رافضا لفكرة أن منتهى أمله من هذه الدولة التي يعارضها جذريا، وأن ينتهي بمقعد في دولاب إدارتها، وإذا فرضنا وأدمج الإسلاميون في هذه الدولة المتمنعة عليهم، فلا أظن أن الدمج سيستوعبهم جميعا.

أتصور أن القول بما بعد الإسلام السياسي يمكن أن يصدق على حركة أو حركات بعينها، وإن كان يصعب تطبيقه كاملا على مجمل الحالة الإسلامية، إنه طرح يتفاوت داخل الحالة الإسلامية، فلا يعمم عليها كلها، كما لا يعمم أحيانا داخل الحركة الواحدة بما فيها حركة الإخوان التي تمثل في نظري مظلة تنظيمية كبرى لتيارات وأفكار إسلامية مختلفة تبدأ من تخوم السلفية الجهادية منزوعة السلاح، وتتعدد حتى تلامس الأفكار الليبرالية.

ومهما تكلمنا عن التحولات لدى الإخوان باتجاه ما بعد الإسلام السياسي، فإن تيارا داخلها سيظل عصيّا على هذا التغيير؛ وهو تيار الموقف السياسي، وليس الممارسة السياسية.

العدد 2450 - الخميس 21 مايو 2009م الموافق 26 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً