العدد 1250 - الإثنين 06 فبراير 2006م الموافق 07 محرم 1427هـ

لماذا العقول الشرقية!

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

الدعوى بأن عقول المسلمين عاطفية، زعم يكرّره الكثير من الكتّاب الغرّبيين لأغراض النيل من عقيدة وفكر هذا الإنسان كما سيتضح، ولأن الكتّاب المتغربّين ثقافياً لا يسعهم في مجتمعاتهم الإسلامية التصريح بذلك كما يفعل الغربيون، فيستبدلون كلمة الإسلام أو المسلمين بكلمة الشرقي، ويبدو أن بعض من يتعاطى هذه العبارة من الكتّاب لا يعي هذا الغرض الخطير، لذلك يهمه التقاط المصطلحات وتكرارها في كتاباته من دون أن يكون لديه وقت للتأمل والتفكير، والمتتبع هذه الأيام، يجد أن اتهام الإسلام والمسلمين بالعاطفية والبعد عن العقلانية هذه لا تخلو منها الكثير من وسائل الإعلام الغربية، فخلال الضجّة القائمة حيال الرسومات الدنيئة من قبل صحيفة دنماركية في حق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، تتكرر بقوة هذه التهمة في كتابات الغربيين كرد على ردّة فعل المسلمين.

أسلوب الالتفاف بواسطة المصطلحات هذا، يذكّرني بمصطلح (الثقافة العربية) الذي ابتدعه بعض المفكريّن المتغربين، والهدف الحقيقي من وراء هذا المصطلح يكمن في تمكينهم من النيل من الثقافة الإسلامية وقاعدتها الفكرية، ولكن تحت مسمى جديد أسمه (الثقافة العربية)، وذلك لكي يبعد عنهم سخط المجتمع، وهذا توّجه مكشوف ومفضوح لأقصى حدود الفضيحة، فإذا كان للشعوب الإسلامية تاريخها الخاص بحضارتها، فإن العروبة لم تنفصل يوماً من الأيام عن الإسلام، وتاريخ العرب هو بالضبط تاريخ الإسلام، وهذه سمة لا يشاركهم غيرهم فيها.

وربما هناك هدف آخر لدى الغربيين من وراء تكرار عبارة (أن العقول الشرقية أو عقول المسلمين عقول عاطفية)، وهي تتعلق بنظرية عنصرية تبرر الظلم الذي أوقعه الإنسان الغربي على الآخرين، وتزعم هذه النظرية بتفوق العرق الأبيض الأوربي على بقية الأعراق، وهي نظرية ظهرت متواكبة مع عصر الاستعمار، لقد قدم عصر النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر وحمل معه شعار المساواة والعدالة، إلا أن الغرب داس على هذه المبادئ بتوسعه الاستعماري وسعيه الذي تكلل بتحطيم الشعوب الأخرى واستعبادها، وسلب ثرواتها وتحطيم صناعاتها وحياتها الاقتصادية، وهنا ظهر التناقض الفاحش بين دعاوى الفكر الديمقراطي الرأسمالي الذي جاء به عصر النهضة، وبين ممارسات الإنسان الأوروبي تجاه بقية البشر، غير أن هذه الجرائم وجدت لها ما يبررها فلسفيا حين انبرى بعض مفكري الغرب ممن يطلق عليهم أصحاب الفكر التنويري، وزعم أن الإنسان الأوروبي متفوق ذاتياً نتيجة عرقه الأبيض، وان استعمار البلدان الأخرى يأتي في سياق وظيفة الإنسان الأوروبي الحضارية وواجبه تجاه الأعراق والأجناس الأخرى من البشر المتخلفة ذاتياً.

إن عقل الإنسان بمعنى تفكيره وما يختلج في ذهنيته يتشكل بفعل عقيدته، ومفاهيم هذه العقيدة تنعكس في مشاعره وعواطفه ومن ثم في سلوكه وعمله، فعندما يُذّم الإنسان الغربي لابتذاله وانحراف مفهومه للأخلاق، إنما هو ذم لفكره المادي الذي يعد أساس كل ذلك لا غير، بالمثل، فإن التعريض والقدح في الإنسان الشرقي يعتبر في الحقيقة ذمّ في عقيدته وفكره، سواء بعلم وقصد أم لقلقة كاتب بلا وعي لهذه الأبعاد، إن خشية الكاتب من المتسلقين الذين ينوون ترشيح أنفسهم لمجلس النوّاب القادم، والتوّجع على هذا الأمر المرتقب، لا تبرر هذه اللغة المشنّعة، والزعم بإمكان التجيير إلى الموقع الذي تريد (بشوية بهارات... بشوية لعب على العواطف) ليس مسوّغاً لمثل هذه الأوصاف المقيتة في حق الشرقيين، فليس هناك من أمم غافلة عن الحقيقة ومستهبلة كالأمم الغربية التي تتحكم في توّجهاتها وعقولها وقناعاتها وكالات الأنباء العالمية التي يمتلك أكثرها يهود متصهينون، والتي تقوم بتوزيع خدماتها على آلاف وسائل الإعلام في العالم.

ومع أن انحراف المفهوم عن ما يطلبه الإسلام أحياناً موجود في أوساط الإنسان الشرقي، إلاّ أنه ومهما كانت الدرجة التي بهتت من العقيدة الإسلامية في حياة هذا الإنسان، إلا أن القدر الكبير منها ما زال هو المحرّك والمؤطر لسلوكه.

تخلّف الشرق لا يرجع لإنسانه بقدر ما يرجع لمن يحكمه بالحديد والنار ويظل لعقود مستحوذاً على كل السلطات، يشرّع ويخطط وينفذ بعيداً عن إشراك هذا الإنسان، ولو أتيح للشرقي العمل في إطار ومنهج يتوافق مع عقيدته ومفاهيمه عن الحياة، لسابق الآخرين في الرقي لمعارج الكمال المادي وسبقهم، وتاريخه وحضارته تشهد بذلك، غير أن السياسيين القابضين على زمام الحكم في المشرق وكثير منهم من مخلّفات الاستعمار وصنيعته، يفرضون عليه منهجا لا يتواءم مع فكره ومعتقداته، ويزجون بهذا الإنسان في المتناقضات، وبذلك فُرضت عليه ولاءات متعارضة كما في تعبير السيد الصدر إذ يقول: «إذ يرفض في المسجد وبين يدي ربه ما يمارسه في المتجر أو المعهد أو المكتب، ويرفض في حياته العملية ما يقدّسه في المسجد ويعاهد الله على الوفاء به، ويظلّ في دوامة هذه الولاءات المتعارضة لا يجد حلاًّ للتناقض إلّا بالتنازل عن المسجد».

مشكلة مثل هؤلاء الكتّاب ممن يحتقر الإنسان الشرقي، لا يعون أسباب استمرار التفوّق الغربي، لذلك أضحكت بعضهم مقولة إن أميركا ستسقط، إلا أن المسألة مسألة وقت وظروف، ذلك أن استمرار التفوّق الغربي كان وراؤه تكريس متعمد للتخلف الشرقي، وهذه مسألة لابد منتهية، وسقوط النظام الديمقراطي الرأسمالي ومن ثم سقوط أميركا في نظر الكثير من المفكرين ممن توّقعوا سقوط الشيوعية سابقاً ومنهم المفكّر الإمام الصدر حتمي، بمعنى سقوط الأطروحة. ويقدم السيد الشهيد الصدر الأدلة على ذلك، ويقول: «الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقق في نظر الإسلام... ومرد الفشل والوضع الفاجع الذي مُنيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام (يرجع) إلى مفاهيمها المادية الخالصة التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها ويستمدّ خطوطه العامة من روحها وتوجيهها». هذا ما يطرحه هذا المفكر ويدعمه بالأدلة الدامغة، وليت مثل هذا الكاتب الذام للإنسان الشرقي، يوّفر جزءاً من وقته المصروف على الكتابات الحداثية المتغرّبة للتأمل في طروحات هذا الإمام العظيم.

لقد قام المستعمرون بالكثير من الممارسات الهادفة لتكريس التخلّف الشرقي من مثل القضاء على صناعات البلدان النامية وجعلها أسواقاً لمنتجاته، ومصدراً لتلبية حاجات مصانعه من المنتجات الأولية بثمن بخس وغيرها من ممارسات تستهدف ضمان استمرار التفوّق الغربي، إلا أنها في تصوري لا تعادل في خطورتها ما يقوم به بعض الكتّاب بأسلوبهم التشويهي في مخاطبة وجدان الإنسان الشرقي واتهامه بالتخلّف وذمّه المتواصل الذي لا ينتهي، ذلك أن هذا الطرح يقود إلى تحطيم داخلي، وشك فكري، فما يحرّك الإنسان هو الفكر والمفهوم، وتشكيكه في فكره يقود إلى اهتزاز القاعدة التي يستند عليها وينطلق منها مؤملاً النجاح المستقبلي، ويحيله مثل هذا التشكيك إلى مثل ذلك الغراب الذي حاول تقليد مشية الطاووس، فنسي مشيته ولم يتقن مشية الطاووس. ولعل كلمة الزعيم الإفريقي، نيلسون مانديلا، فيها عبرة لهؤلاء من الهمزة اللمزة الممتهنين الذّم المتواصل للإنسان الشرقي وكأنهم ليسوا من الشرق، إذ يقول - ما مضمونه: مشكلتنا نحن السود أننا لا نحترم أنفسنا ومن ثم لا يحترمنا الآخرون.

أخيراً أهمس في أذن هذا الكاتب وغيره من الشرقيين المشتغلين على تحطيم الإنسان الشرقي: الرجاء التحدّث عن نفسك فقط.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1250 - الإثنين 06 فبراير 2006م الموافق 07 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً