العدد 3205 - الخميس 16 يونيو 2011م الموافق 14 رجب 1432هـ

أمة تحترق... لتبقى

محمد بن المختار الشنقيطي comments [at] alwasatnews.com

.

كتب أريك هوفر مرة يقول «يحسب الناس أن الثورة تأتي بالتغيير، لكن العكس هو الصحيح». وقد صدق ذلك الفيلسوف الأميركي، فالتغيير هو الذي يأتي بالثورة:تغيير النفوس، والثقافة السياسية، والمعايير الأخلاقية... ومما يبشر بخير تراكمُ تغييرٍ عميقٍ في نفوس شعوبنا وثقافتها خلال العقدين الماضيين، وهو ما وضع الدول العربية على درب ديناميكية ثورية، لن تتوقف حتى تصل مداها وتؤتي أكلها.

فمنذ أن أحرق محمد البوعزيزي نفسه أمام مبنى الولاية في مدينة سيدي بوزيد التونسية يوم الجمعة 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 وأنباء الاحتراق تدوّي في الإعلام العربي.

فقد تكررت الظاهرة في بلدان عربية عدة خلال بضعة أسابيع، لكن الاحتراق في أمتنا المكلومة في كرامتها لم يبدأ الشهر الماضي، بل بدأ مع حركات التحرر منتصف القرن العشرين، مروراً بالعمليات الاستشهادية في فلسطين وغيرها... وما نراه اليوم هو تحول عملية الاحتراق الذاتي هذه من مقاومة للظلم الخارجي، إلى ثورة على الظلم الداخلي، ومن سيف موجه إلى الغير إلى سهم موجه إلى الذات، ومن فعل تدميري إلى رمز تعبيري.

وهو ما يدل على بركان كامن في نفوس لم تعد تثق بحكامها مثقال ذرة، أو تعوّل على نخبها المعارضة كثيراً. فما نشهده اليوم أقرب ما يكون إلى ما سماه لينين «حالة ثورية»، لا ينقصها سوى حسن التسديد وصلابة الإرادة.

وأهم ملامح هذه الديناميكية الثورية الجديدة دخول عامة الشعب معركة التغيير بكثافة وجرأة غير معهودة في العقود الماضية، وهو أمر لم يكن الحكام يحسبون له حساباً من قبل، والطابع الديمقراطي الذي لا لبس فيه على خلاف الانقلابات العسكرية التي تسمَّت ثوراتٍ في العقود الخالية، ثم عدم الرضا بما دعاه الفيلسوف جون لوك «سلام المقابر»، فلم تعد الشعوب العربية راضية بالدون، أو مستسلمة للذل والقهر.

لقد كانت تونس فاتحة الخير، وها نحن اليوم نشهد بشائر الثورة الشعبية تحمل نسائم الفجر الجديد إلى مصر واليمن ومواطن عربية أخرى، فكيف نحوّل هذا الاحتراق الاحتجاجي إلى تغيير منهجي مضمون الثمرات؟

لقد لخص المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي عوامل نجاح الثورات -أو «قواعد رفع الاستبداد» كما سماها- في ثلاثة:

أولها- عموم الإحساس بالقهر والغبن لدى عامة الشعب، «فالأمة التي لا يشعر كلها أو غالبيتها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية» بحسب تعبيره، وهذا قريب مما دعاه لينين «الحالة الثورية».

ثانيها- الالتزام بمنهج النضال المدني في مقارعة المستبدين، «فالاستبداد لا يقاوم بالشدة، وإنما يُقاوَم باللين والتدرج». وكم يتمنى المستبدون تحول الثورات إلى عنف أهوج، من أجل نزع الشرعية عن غاياتها الشرعية.

ثالثها- إعداد البديل السياسي، والتواضع على قواعد لتداول السلطة قبل البدء بالثورة، إذ «يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدَل به الاستبداد». وقد اشتملت ثورة تونس على دروس عظيمة يحسن بنا أن نتأملها، ونحن نضع أقدامنا اليوم على درب الثورة في أكثر من بلد عربي. من هذه الدروس:

أولاً- إن الحرية ليست صدقة من دول الغرب التي طالما رعت الاستبداد في بلداننا، وهي تعظنا -نفاقاً- بقيم الديمقراطية، كما أن التحرير عبر التدمير -على طريقة الأميركيين في العراق- ليس خياراً لأمتنا، بل هو امتهان للذات، واستسلام لمنقذ أجنبي غير نزيه.

ثانياً- إن حسن التسديد شرط من شروط نجاح الثورة. ويقتضي حسن التسديد اجتناب العنف الأعمى، فقد ضاعت فرصة الثورة الشعبية في الجزائر مطلع التسعينات لأن الجنرالات الفرانكفونيين -ومن خلفهم فرنسا- نجحوا في تحويلها إلى مواجهة دموية هوجاء.

ثالثاً- إن الوقوف في منتصف الطريق خيار بائس، وهو أقصر طريق لوأد الثورات وتبديد التضحيات. وكما كتب الفقيه السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل منذ 150 عاماً «إن الثورة مثل الرواية، أصعب ما فيها هو نهايتها». فلا يجوز أن تقبل شعوبنا بعد اليوم ترقيعاً ولا التفافاً، أو أن ترضى بما دون تفكيك بنية الاستبداد.

رابعاً- إن التغيير لن يحصل من دون جهود الجميع وتضحياتهم. لقد كان الصراع -إلى عهد قريب- صراع نخبة ضد نخبة، أو بتعبير أدق كان صراعاً بين تنظيم سري اسمه «الحركة الإسلامية»، وتنظيم سري آخر اسمه «الأمن المركزي» أو «المباحث العامة»، ولم يتحول إلى تدافع اجتماعي شامل يجعل التغيير حتميّاً.

لقد احترقت الحركات الإسلامية في وجه الاستبداد خلال العقود الثلاثة الماضية، فكان لها الشرف في اجتراح البطولات ومقارعة الظلم يوم كانت عامة الشعب تنظر من بعيد إلى الصراع الدائر وكأنه لا يعنيها.

لكن مشكلة الصراع بين النخب أيّاً تكن هي أنه صراع على حكم الشعب لا على تحريره، وما نحن بحاجة إليه اليوم هو تحرير الشعوب، وهو أمر لا يتحقق إلا بنزول الشعب بثقله إلى المعركة وفرض منطقه الخاص، فمشاركة الجميع في الثورة ضمان سلميتها وقلة كلفتها ونضج ثمرتها.

إن في أعمار الأمم لحظات بطولة ولحظات بناء، فلحظات البطولة لا تهدف إلى البناء، بل إلى الهدم، هدم الكيان الظالم الذي يقف في وجه الحضارة. وقد بايع الأنصار النبي (ص) ليلة العقبة بمكة على «الدم الدم والهدم الهدم». والحق أن الحضارة يشق طريقها الشهداء الذين يعطون ولا يأخذون، ويضع أسسها العلماء الذي يعطون ويأخذون، ويفرّط فيها الأمراء الذين يأخذون ولا يعطون. وقد لاحظ المفكر مالك بن نبي أن الأبطال لا يقاتلون «من أجل البقاء، بل في سبيل الخلود» (بن نبي، شروط النهضة، ص21).

وقد سار الحاملون لهمِّ النهضة في هذه الأمة أشواطاً طويلة على درب البطولة، فاحترقوا شموعاً وضاءة في وجه الاستعمار والاستعباد، وهاهم اليوم يشتعلون سُرُجاً وهَّاجة في وجه الاستبداد والفساد. والبطولة ضرورة لتسوية النتوءات القبيحة، وفتح الثغرات في الطريق المسدود، ثم إن البطولة عملة نادرة بين البشر، وقد صدق الرئيس البوسني السابق علي عزت بيغوفيتش إذ كتب في كتابه: «هروبي إلى الحرية» يقول: «لم يُغنِّ الشَّعب للذكاء، وإنما غنَّى للشجاعة...لأنها الأكثر ندرة».

بيدَ أن البطولة وحدها لا تكفي، فهي تشق الطريق، لكنها لا تبني على جنبيه صروح العدل والحرية، ولا تحفظ العزة والكرامة على المدى البعيد، حينما يخمدُ وهَج الفداء وتركن النفوس إلى الحياة. وإنما يتم القطاف لثمار البطولات بوضوح الرؤية وعمق الفكرة.فشعوبنا اليوم بحاجة إلى التفكير في النهايات قبل البدايات، والتخطيط لما بعد الثورة قبل البدء في الثورة، وإلى استيعاب ما تمنحه ثورة الاتصالات من قدرة، وتجارب الثورات العالمية من خبرة.

لقد قدمت أمتنا ملايين الشهداء في القرن العشرين للتخلص من الاستعباد الخارجي، من الاستعمار الفرنسي للجزائر إلى الاستعمار السوفياتي لأفغانستان، لكن حصاد تلك التضحيات كان هزيلاً جدّاً:حفنة من الجنرالات الفاسدين يتحكمون في رقاب الناس، أو فوضى عارمة يتقاتل فيها إخوة السلاح السابقون على فتات غنائم الاستقلال. وقد تلاعب العسكريون المُجدِبون من كل قيم الحرية والإنسانية بعواطف الجماهير، وجنوا ثمرات جهدها وجهادها ضد الاستعمار، مستغلين ضعف مستوى التعليم والوعي السياسي حينها.

ولو كانت شعوبنا على قدر من الوعي والبصيرة السياسية صبيحة رحيل الاستعمار، لكانت أدركت أن الحرية من الاستبداد صنوٌ للتحرر من الاستعمار، وأن الشرعية السياسية لا تُكتسب تلقائيّاً، وإنما تُمنح من الشعب تصريحاً لا تلميحاً، من دون لبس ولا مجاز.

فقد قاد الجنرال ديغول معركة تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، لكن ذلك لم يمنحه شرعية قيادة الدولة الفرنسية صبيحة رحيل الألمان، بل كان عليه أن ينتظر الحصول على تفويض من الشعب بعد عقد من الزمان. وشعوبنا تساس اليوم بعسكريين فاسدين لم يمتلكوا شرعية الشعب ابتداء، ولا حتى شرعية النضال ضد الاستعمار التي امتلكها أسلافهم.

لقد احترقت أمتنا على فوهات مدافع الاستعمار العسكري منتصف القرن العشرين، ثم احترقت في وجه الاستعمار السياسي وبربرية الحضارة مطلع القرن الواحد والعشرين، وها هي اليوم تحترق في وجه الاستبداد الذي يعدّ وريث الاستعمار ومُخلِّد ذكراه.

وهذا الاحتراق الذي نعيشه اليوم أنبل الحرائق، وأسدُّها مَضرِباً، وأعمقها أثراً. وسيظل وهَج هذا الحريق وضاءً حتى تضمن أمتنا لنفسها البقاء والعزة والكرامة... وليس مطلوباً أن يحرق شبابنا أنفسهم، فذلك ظلم لأنفسهم ولنا، بل أن يحرقوا عروش الظلم والاستبداد والفساد.

لقد نادى منادي الثورة، وأشرقت وجوه الشعوب العربية، وما هو إلا صبر ساعة، ودفع ضريبة الحرية. وها نحن نرى الجمْع الهادر وقد احتشد في الحواضر، على نحو ما صوره خيال أبي الأحرار اليمنيين الشهيد محمد محمود الزبيري:

الملايين العطاش المشرئـبَّهْ

بدأت تقتلع الطـاغي وصحبَهْ

سامها الحرمانَ دهراً لا يرى الــغيث

إلا غيثه والسُّحبَ سُحبَهْ

لم تنل جرعة مـاءٍ دون أن

تتـقاضاه بحرب أو بغَضْـبَهْ

ظمِئتْ في قيـده، وهْي ترى

أَكله من دمها الغالي وشُـربَهْ

إقرأ أيضا لـ "محمد بن المختار الشنقيطي"

العدد 3205 - الخميس 16 يونيو 2011م الموافق 14 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً