العدد 3219 - الخميس 30 يونيو 2011م الموافق 28 رجب 1432هـ

عصر الانحطاط العربي في القرن 21

خالص جلبي comments [at] alwasatnews.com

.

في كتاب «حتى الملائكة تسأل» بقلم أستاذ الرياضيات الأميركي، جيفري لانج، يذكر فيه أنه سأل والده حينما كان طفلاً: يا أبت هل تعتقد بالجنة والنار؟ أجاب: أما الجنة فلا علم لي بها أما جهنم فقد رأيتها. ووضع العالم العربي اليوم مثل المريض المدنف يصحو على نزف وينام على اختلاط بدون عناية مشددة وأطباء. ويعرف كل من حوله أنه مريض. ويعرف كل من حوله أنه لا يعرف طبيعة المرض أو نوع الدواء. والجميع بين خائف وحزين ويائس.

وفي المحطات الفضائية يرتدي مقدمو البرامج ملابس السحرة فيدمدمون ويسجعون ويجري الحديث عن اعتذار ومصالحات عربية كمن يعالج الايدز بالبخور والسل بالدعاء. وهو ليس انتقاصا من قدر البخور أو الدعاء سوى أنه ليس في مكانه. ذلك أن مرض الغدر لا يعالج بالكلام. ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. ويمضي التاريخ وفق قوانينه الخاصة. ومضت سنة الأولين.

وقبل دخول الألفية الثالثة سألتني مجلة «الرجل» ثلاثة أسئلة عن أهم الرجال والحوادث في فترة الـ 500 عام الماضية. والعقد الفائت والعقد المقبل. وكان جوابي أن ما حدث خلال القرون الخمس الفارطة واضح لأنه ظهر أثر أولئك الرجال مثل كوبرنيكوس الذي قلب النظام الكوني. وديكارت الذي قلب عقولنا بمنهج الشك الذي يقود لليقين. ودارون الذي أعطانا مفهوماً جديداً لمعرفة نشأة الحياة وتطورها. وغاندي الذي أحيا منهج الأنبياء بدون نبوة وهو قهر الخصم بالحب دون قتله. وكولومبوس الذي قلب خرائط العالم ومعها أقدار الشعوب وقفز الصليبيون الفقراء إلى واجهة التاريخ ولم تعد ملكة بريطانيا تعيش على القرصنة أو يقودهم ملك أمي إلى بيت المقدس. بل ملكوا البحار والثروات ومؤسسات البحث العلمي ومصارف المال ويعلن في ديسمبر/ كانون الأول 2002 عن استنساخ أول طفل في تاريخ الطب في أميركا.

ويبنى لأحفاد ريتشارد قلب الأسد بيوتا في القطب الجنوبي والقمر والمريخ. أما رجال العقد الفارط فيختلف قدرهم من زاوية رؤيتهم مثل ماري روبنسون في حقوق الإنسان أو بروز تيار الإصلاحيين في إيران مع خاتمي أو انهيار حلم الوحدة العربية بعد عاصفة عند الخليج.

ويبقى أصعب الأسئلة هو العقد الذي دخلنا فيه. ولكن الشيء المؤكد فيه هو بروز عصر الملكيات العربية وهو مؤشر قد يكون جيداً من جهة كونه يعطي مؤشرا دقيقا عن المرحلة الفعلية التي تمر بها الأمة العربية المتوقفة في مربع الزمن عند العام 1423 ميلادي قبل فترة الإصلاح الديني في أوروبا، بفارق أنه عصر جاء في غير محله كمن يلبس قميصاً بنصف كم في بلاد الإسكيمو.

وأهمية معرفة المرحلة التي تمر فيها الأمة العربية ومؤشرات المستقبل تأتي من أهمية التاريخ العام للجنس البشري وتطوره، وفي المقابلة التي أجرتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية عدد 14 2002 مع عالم الاجتماع مانويل كاستلز Manuel Castells من جامعة كاليفورنيا في بيركلين عن تطورات العالم؛ الذي رأى أنه يتحول إلى مجتمع جديد إلكتروني من يدخل فيه على شبكة المعلومات انتمى إليه وأما الجاهلون فمصيرهم الانسحاق في ثقب أسود، وأن العالم الإلكتروني سيكون حكراً على المتعلمين بتفوق ويذهب إلى ما ذهب إليه آندي جروف Andi Grove من رواد شركة انتيل للميكروشيبس أن قفزة عصر الإنترنت تضاهي الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وأن بنية المجتمع ستتغير كلية تتراجع فيه سطوة الدولة والمخابرات فيفلت من قبضتها تدفق المال وتيار المعلومات في ضربة موجعة. وحيث الإنترنت لا يوجد مسافات ومن كان خارجه كانت المسافات لا نهاية لها. وأنه عصر المرأة وأنه التحول الأعمق للمجتمع الإنساني بنشوء وعي نسائي مستقل وهو غير قابل للارتداد. وأن من يقود العالم لم يعودوا رؤساء الدول بل ربابنة بحر الإنترنت. وأن العالم سيعاني من ظاهرة الاستقطاب Polarization حيث يتحول إلى بنية مركبة من نواة فعالة للغاية تمثل 30 في المئة من الجنس البشري في يدها العلم والمال والتكنولوجيا، وأنه مع العام 2007 سيكون من السعداء الفائزين ملياران من البشر متصلون بعالم الشبكة الإلكترونية في الوقت الذي لا يعرف مليار من البشر وهم 16 في المئة من مجموع الجنس البشري تهجئة كلمة «كمبيوتر».

وأسوأ ما سيحدث ليس استعمارا من النوع القديم حيث تنهب ثروات الشعوب بل تحول الجاهلين إلى «عالم رابع» يتم تجاهله لأنهم بكل بساطة ليسوا منتجين ولا مستهلكين (للمعرفة). ومع هذا الاضطراب الكوني ستنمو الأصولية في كل مكان من الدينية والعرقية والوطنية وتدخل فيها الأصولية الإسلامية والمسيحية.

ولستتعاظم الجريمة المنظمة واليوم ينفق على الجريمة 1.5 مليون مليون دولار وهو ما يعادل التجارة الأوروبية في العام. وفي أميركا يفتتح كل أسبوع سجن جديد يتسع لألف سجين، وينفق في كاليفورنيا على السجون ما ينفق على التعليم.

وهكذا ففي الوقت الذي دخل العالم القرن العشرين بقدر كبير من التفاؤل بقدر ما يدخله اليوم بكثير من عدم الثقة. وفي الأول من يناير/ كانون الثاني العام 1901م جاء في افتتاحية صحيفة «شيكاغو تريبيون Chicago Ttibune» أن «القرن العشرين سيكون قرن الإنسانية والأخوة لكل البشر وسيفوق في عظمته كل اكتشافات العلم وانتصارات الفن التي سبقته» والذي ظهر أن القرن العشرين كان قرن الحروب العالمية والأوبئة مثل انفلونزا 1918 التي قضت في أربعة أشهر على البشر أكثر مما قضت الحرب العالمية على الجنود في أربع سنوات. وفرخت العنصرية والنازية والفاشية والديكتاتوريات العسكرية بالانقلابات. وفيه ولد حق الفيتو مثل أي كائن مشوه لا يصلح لحل مشاكل العالم سوى خدمة نادي الأقوياء.

والآن يتفق الكثير من المفكرين مثل المؤرخ ايرك هوبسباوم Eric Hobsbawm 82y من جامعة لندن والفيلسوف نوربرت بولتس Norbert Bolz من جامعة إيسن من ألمانيا وعالم التاريخ رولف بيتر زيفرليه Rolf Peter Sieferle من جامعة برلين على أن القرن الحالي أفضل ما يوصف فيه أنه «قرن تزداد فيه الفوضى ويتناقص فيه النظام» وأنه على حد قول هوبسباوم كما في كتابه الشهير «عصر التطرف» أنه «لا توجد أي قوة عظمى بما فيها الولايات المتحدة تسيطر وتنظم العالم، وأن الكون في فوضى عارمة». وهو بذلك يولد ولادة جديدة لا يتجرأ أحد على التنبؤ بها فقد علمنا التاريخ مصير مسيلمة الكذاب.

لقد كتب الأميركي ادوارد بيلامي Edward Bellamy العام 1888م قصته المثالية بعنوان «العالم عام 2000» متوقعاً أن يكون العالم «خاليا من الطبقات تعمه الأخوة، من دون سيارات وطائرات وقنابل نووية، يساق للناس رزقهم عبر شبكة هائلة من الأنابيب بالعشي والإبكار». واليوم بعد مرور أكثر من قرن على أحلام الكاتب بيلامي نعرف أنها لا تزيد عن هلوسة.

ونشر قسيس مجهول اسمه توماس مالتوس العام 1798 بحثاً قصيراً بعنوان «تزايد السكان وأثره في مستقبل نمو المجتمع» تنبأ بكارثة اجتماعية أمام تكاثر السكان وفق سلسلة هندسة أمام زيادة الغذاء وفق سلسلة حسابية ورأى أن الحل سيكون أحد أمرين: المجاعة أو الحرب أو كلاهما معاً. وهو كان يتكلم عن عدد للسكان في الأرض لا يزيد عن مليار واليوم وصل الرقم إلى ستة مليارات من دون مجاعة وليست الحروب من أجل الغذاء اكثر من سياسة رجال قساة.

وكرس البنتاغون معاهد خاصة لدراسة المستقبل اسمها مستودعات التفكير Think Tanks ظهر أن أخطاء التنبؤ فيها تزيد عن 80 في المئة. أما رئيس معهد راند للدراسات المستقبلية هيرمان كان، فقد توقع للعام 2000 ألا يجد سوى 70 في المئة من الأميركيين عملاً. وتوقع رافي بترا، كساداً مزلزلاً للاقتصاد العالمي العام 1989 على أساس الأزمة الدورية التي تحيق بالنظام الرأسمالي كل ستين سنة وقدم نصائحه للناس أن يستعدوا لدخول سبع سنوات عجاف اشد من سني يوسف. أما هاري فيجي وجيرالد سوانسون فقد ذهبا إلى أفظع من هذا في كتابهما «الإفلاس الأميركي العام 1995» بقولهما «لن يبق للولايات المتحدة التي نعرفها اليوم أي وجود بحلول العام 1995». وانطلقا في هذه النبوءة التي رجت مفاصل الناس من فكرة مفادها أن الديون الأميركية ستصل على صورة عصا الهوكي إلى مقدار 13 تريليون دولار بحيث يدخل الاقتصاد الأميركي حالة اللا عودة كما في الصدمة اللا مرتجعة عند الإنسان.

وفي الطب توقعت وزيرة الصحة الأميركية العام 1982 الوصول إلى حل لمرض الايدز في أربع سنوات. واليوم وبعد مرور عشرين سنة على التصريح لا يوجد لقاح ضده. ويحمل هذا المرض اليوم أكثر من 33.4 مليون إنسان مات منهم 14 مليونا، وفي أميركا وأوربا 1.4 مليون مصاب بالمرض.

إلى أين يمشي التاريخ؟ ومن يستطيع أن يتجرأ فيقول إلى أين يمشي؟ الشيء الأكيد أن التاريخ يمشي بخطى تقدمية على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. والشيء الأكيد أن العالم العربي يعيش عصر الانحطاط ولم يتغير كثيرا عن عصر كافور الأخشيدي، وأن الشمس طلعت من مغربها. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والسؤال ما هو هذا الذي بأنفسنا ويحتاج للتغيير؟

تقول الرواية إن طفلاً نزقاً أراد أن يعلمه والده ضبط النفس فقال له كلما غضبت اثقب في الجدار ثقبا بطرق مسمار فيه ففعل وكانت كثيرة ومريعة. قال له أبوه: عندما تكف عن الثقب ارفع مسمارا عن كل يوم لا تغضب فيه ففعل. وبقي فترة طويلة حتى رفع كل المسامير. نظر الطفل فرأى أن الجدار زالت منه المسامير وبرز محلها فوهات لا نهاية لها من آثار الثقوب. استحى الطفل في نفسه فقال له أبوه: قد نكف عن الغضب ولكن الإهانات التي نفعلها مع الناس تبقى ندبات لا تزول مع زوال نزواتنا

إقرأ أيضا لـ "خالص جلبي"

العدد 3219 - الخميس 30 يونيو 2011م الموافق 28 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً