العدد 3242 - السبت 23 يوليو 2011م الموافق 22 شعبان 1432هـ

بسيوني بين رخاوةِ «العدالةِ الانتقاليةِ» وشِدَّةِ «العدالةِ الجِنائيَّة»!

فاضل حبيب comments [at] alwasatnews.com

.

تتَّجه أنظار المراقبين اليوم (الأحد) صوب مُتحف البحرين الوطني، حيث تعقد لجنة تقصي الحقائق برئاسة محمود شريف بسيوني منتدىً عاماً يشارك فيه عدد من أعضاء الجمعيات السياسية والأهلية في البحرين.

فبعد صدور الأمر الملكي رقم 28 لسنة 2011م بإنشاء لجنة مستقلة لتقصِّي الحقائق في الأحداث التي وقعت مؤخراً في مملكة البحرين، سألت خبيراً مختصاً في مجال الرصد في انتهاكات حقوق الإنسان، عن رأيه في هذه المبادرة الملكية، فأجاب: أعضاء اللجنة يعدُّون من جهابذة وأساطين القانون الدولي، وأعتقد أنهم سيعملون بمهنية عالية.

قرار تشكيل اللجنة لاقى ترحيباً رسمياً ومن قِبل مؤسسات المجتمع المدني على حد سواء، حيث اتفق الجميع على ضرورة الخروج بحل جذري للأزمة التي عصفت بالبحرين مؤخراً، إذ اعتبر سمو رئيس الوزراء قرار تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بأنه قرار شجاع لتكريس قيم العدالة والشفافية والنزاهة والمساءلة ورعاية وصون الحريات وحقوق الإنسان، موجهاً في الوقت ذاته إلى تسهيل عمل اللجنة المذكورة وإنجاح مهامها ومقاصدها عبر تكليف الوزارات والأجهزة الحكومية كافة بتقديم المعلومات والبيانات والتسهيلات التي تمكِّن اللجنة من تحقيق أهدافها باستقلالية.

كما وجَّه وزير الداخلية كل أجهزة الوزارة للتعاون مع اللجنة، معتبراً أن الوزارة تريد أن تكون جزءاً من الحل، وليس جزءاً من المشكلة.

المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان هي الأخرى أبدت استعدادها التام لمساعدة اللجنة في توفير الإمكانيات والمعلومات كافة.

في المقابل دعت الجمعيات السياسية المعارضة إلى التعاون مع اللجنة، باعتبارها خطوة على طريق كشف الحقيقة من أجل معالجة مسببات الأزمة الأخيرة بشكل جذري، مقدرين حرص جلالة الملك على تجاوز تداعيات الأحداث التي مرت بها البلاد، وعدم التهاون أو التساهل حيال ثبوت أية انتهاكات لحقوق الإنسان من أي طرف كان.

تقتضي العادة في بعض دول العالم على تبنِّي «العدالة الانتقالية» كأسلوب لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان، وتدشين مرحلة جديدة قائمة على الإنصاف والمصالحة الوطنية.

في الوقت الذي ينظر البعض إلى مفهوم «العدالة الانتقالية» بوصفه حمّال أوجه إلى حد ما، لأن اللبس يشوب القسم الثاني من المصطلح، وأعني (الانتقالية)، والتي ترتبط بالانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم والتهدئة، أو الانتقال من وضع سياسي داخلي ارتبط بالعنف والتصعيد المسلح إلى حالة التحول السياسي الديمقراطي، أو الانتقال من حكم لا يؤمن بالحوار والقبول بالتعددية السياسية إلى حكم رشيد منفتح على الحالة السياسية وضرورة إحداث جملة من المراجعات.

هذه الرغبة لاقت تجاوباً مجتمعياً عند تطبيقها في بعض البلدان، فالتحول سمة تنسجم مع رغبة المجتمعات وتطلعاتها في إعادة بناء الثقة وجسور التواصل الاجتماعي بين جميع المكونات والأطياف، كما ظهر في لجان الحقيقة في دول عدة مثل: الأرجنتين العام 1983 وتشيلي العام 1990، وعمليات التطهير في تشيكوسلوفاكيا العام 1991، ولجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا في العام 1995م، وهيئة الإنصاف والمصالحة بالمغرب العام 2004م حينما قدمت المعارضة نموذجاً فريداً على مستوى الوطن العربي، إذ قام الملك محمد السادس بتعيين عبدالرحمن اليوسفي رئيساً لمجلس للوزراء (الوزير الأول)، حيث قام الأخير بصفته رئيساً للهيئة بفتح ملفات جريئة وحساسة للغاية، كالتعذيب والاختفاء القسري وتعويض ضحايا الحقبة السابقة، إلى أن انتهى الأمر برصد الحكومة المغربية مع انتهاء عمل الهيئة مبالغ ضخمة وصلت إلى 150 مليون يورو، ليتم صرفها لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.

قد يصف البعض «العدالة الانتقالية» بأنها تتناقض مع «العدالة الجنائية»، وذلك على المستويين المحلي والدولي من جهة إنصاف الضحايا والمتضررين، ودمجهم في الحياة العامة عبر إنشاء هيئات تحت مسميات مثل «الإنصاف والمصالحة الوطنية»، وبين التصدي الواسع لانتهاكات حقوق الإنسان واسترداد ثقة الناس بضرورة احترام وسيادة القانون، ليأخذ كل ذي حق حقه، سواءً بالنسبة إلى الجاني أو البريء عبر إنشاء لجان لتقصي الحقائق، تحت إشراف جهات أممية رفيعة المستوى، كما هو الحال في المشهد البحريني.

ربما لا أتفق مع القائلين بأن الدول التي تسمح للجان الأممية بالتحقيق في أحداثها الداخلية بأنها ضعيفة أو أنها أعطت الضوء الأخضر لاختراق سيادتها، فالحكم الرشيد يتمثل في تحمُّل الدولة مسئولياتها المادية والمعنوية تجاه الأفراد الذين تضرروا نتيجة أخطاء ارتكبت في مرحلة سابقة، فأين تقع المشكلة عندما يقوم الجاني بالاعتذار لضحاياه بسبب أوامر تلقاها مباشرة من شخص مسئول؟ وفي المقابل ما الحرج عندما تعتذر المعارضة عن أخطاء قامت بها، كما شاهدنا في موقف جمعية وعد بخصوص الجيش؟

من المسلَّم به في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البحرين التأكيد على دور لجنة تقصِّي الحقائق كواحدة من الآليات المهمة لتوثيق سجل انتهاكات حقوق الإنسان التي ظلت خافية، وإجراء التحقيقات المفصلة بشأنها، فمن أهم مزايا هذه اللجنة إلزامها الحكومة أو الأطراف المعنية بتجنب تكرار الفظائع والانتهاكات نفسها في المستقبل، لتصبح عملية التذكر ومحاسبة المتورطين بمثابة عامل ردع لكل من تسوِّل له نفسه بارتكاب انتهاكات مماثلة مستقبلاً.

وبناءً على هذا التوجُّه العالمي تأسست المحكمة الجنائية الدولية في العام 2002 لتعبِّر عن ذروة الوعي والتطور في تاريخ نضال البشرية ضد انتهاك وامتهان كرامة الإنسان، ولوقف ظاهرة الإفلات من العقاب كأول محكمة تقوم بمحاكمة وملاحقة المتهمين بجرائم في القضايا الأربع: الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم الاعتداء.

لقد بات من الضروري التأكيد على جملة من العوامل التي تساعد لجنة تقصي الحقائق في البحرين من أداء عملها بنجاح، منها: وجود مطلب اجتماعي محدد وواضح للبدء في تأسيس ثقافة لطالما غُيِّبت عن العقل العربي، وهي المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان منذ فبراير/ شباط وإلى نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2011 (موعد انتهاء عمل اللجنة)، والإرادة الجادة للنظام السياسي الحاكم المتمثل في شخص جلالة الملك باعتباره رمز الوحدة الوطنية لإنشاء لجنة مستقلة لتقصي الحقائق بمشاركة شخصيات عالمية في القانون الدولي، والتحقيق الصارم في الأحداث الماضية من منطلق وضوح الاختصاصات والصلاحيات، وهذا ما أكد عليه جلالة الملك عندما قال: إن اللجنة ستقوم بعملها باستقلالية تامة وبدون أي تدخلات من أي نوع، لتقدم تقريرها لنا لاتخاذ ما يلزم من إجراءات»، وتوفير المعلومات للبدء في عملية التحقيق، وهو ما أكد عليه رئيس اللجنة بأنه سيذهب إلى السجون وسيطلب الملفات وإفادات المسجونين، وسيتلقى أية معلومات أو شهادات عن الأحداث الأخيرة التي شهدتها البحرين من أي طرف ذي علاقة، عبر الموقع الإلكتروني للجنة، مع مراعاة خصوصية الأشخاص الذين سيزودون اللجنة بالمعلومات، وأخيراً توافر الموارد الكافية من موازنة ملائمة وطاقم مهني رفيع لقيام اللجنة بمهامها، حيث ستوضع ـ حسب كلام رئيس اللجنة ـ في حساب مستقل لحساب اللجنة، وكل شخص سيعمل في اللجنة سيدفع له كما تدفع الأمم المتحدة، في الوقت الذي سيضم إلى اللجنة ستة محققين غير بحرينيين، والذين سيتم تقسيمهم إلى فريقين منفصلين للتحقيق مع الجانبين الرسمي والأهلي كل على حدة.

ولأن العمل السياسي لدينا في البحرين قائم على السطح، فإن شجاعة جلالة الملك وإقدامه على هذه الخطوة النوعية والاستراتيجية حتماً ستغير وجه المعادلة، لأن أهم ما يميِّز التجربة البحرينية تلاقي الإرادتين الرسمية والأهلية، الرسمية تتمثل في دعوة جلالة الملك (وهو على رأس السلطات الثلاث) لتشكيل لجنة تقصي الحقائق، وفي المقابل الجمعيات السياسية وعموم مؤسسات المجتمع المدني، التي لم تكن غائبة يوماً ما عن المبادرة لتحقيق المصالحة الوطنية، ففي العام 2007 أقيمت ورشة عمل بعنوان «البحث عن الحقيقة والإنصاف والمصالحة» بالتعاون مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية وبمشاركة 11 جمعية سياسية بحرينية لمناقشة آليات توثيق قضايا ضحايا التعذيب من خلال الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في السياق ذاته.

ما يؤكِّد تطلع رئيس لجنة تقصي الحقائق محمود بسيوني إلى العدالة الجنائية لا العدالة الانتقالية هو قوله «سنستند في تقصِّينا عن الانتهاكات إلى القانون الإنساني الدولي، وليس اختصاصنا النظر إلى القانون المحلي، وسيكون الأمر متشابهاً في المحصلة، إذ إنه لا يمكن أن يكون التعذيب مسموحاً به في القانون المحلي».

غاية ما في الأمر أن المهمة المناطة ببسيوني تلتقي مع رغبة بعض الضحايا الذين أعلنوا رفضهم للعدالة الانتقالية وتوجهوا للعدالة الجنائية، ولذلك عارضوا قانون رقم (56) لسنة 2002م، والذي أعطى نوعاً من الحصانة لمرتكبي الانتهاكات السابقة.

في المحصلة النهائية فإن اللجنة انبثقت من رحم مدرسة (المحكمة الجنائية الدولية) ولديها من الصلاحيات التي تخوِّلها لممارسة عملها بكل حرية، فقد أكد رئيسها في أول مؤتمر صحافي له بالبحرين على أن الحدود الزمانية للجنة ستكون من فبراير وحتى نهاية أكتوبر 2011، وكما أرسل بعض الإشارات والتطمينات بقصد تنقية الأجواء للخروج من الأزمة الأخيرة، من خلال موافقة عاهل البلاد على إرجاع المفصولين إلى أعمالهم وجميع الطلبة، وأي شخص يعمل وتم فصله بسبب التعبير عن رأيه.

بعد معالجة الوضع الراهن فإنني أناشد الحكومة للمصادقة على اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية لعدم تكرار ما حدث.

يقول جبران «الحقُ يحتاجُ إلى رجلينِ، رجلٌ ينطقُ به ورجلٌ يفهمه»

إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"

العدد 3242 - السبت 23 يوليو 2011م الموافق 22 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 6:12 ص

      نصرك الله

      الى زائر رقم 3 انا مثلك فصلت تعسفيا وها هي قضيتنا لدى الاتحاد العام وهذا رمضان الخير والكرم قد اقبل نسأل المولى البصير أن يظهر الحق ويعيده الى اهله وما ضاع حق من ورائه مطالب

    • زائر 3 | 1:26 ص

      فصلت بعد غيابي القسري لمدة 3أيام بعد 16/3

      العذر اقبح من ذنب لم استطع الخروج حياتي على المحك والطرق مغلقة لااحد يستطيع التحرك واللجنة تعرف ذلك لكنه الانتقام .واقول وثقت حالتي لدى لجان حقوق الانسان المعتبرة وسأتوجه الان لجمعيات ....الذين نشروا اعلاناتهم لارى دورهم في احقاق الحق وسأصر على مقابلة لجنة بسيوني واليوم سأكون هناك في المؤتمر ماممرنا فيه فاق التصور والعقل

اقرأ ايضاً