العدد 1378 - الأربعاء 14 يونيو 2006م الموافق 17 جمادى الأولى 1427هـ

بناء الدولة وصنع البحريني المنضبط ()

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

قبل أن تنشأ الدولة الحديثة في البحرين، كان كل شيء متحرراً من قانون الإخضاع العام والمركزة الواسعة لكل شيء تحت حدود الدولة، وهذا تحرر لا يقف عند عمليات الناس الحيوية من ولادة ووفاة وتزاوج فحسب كما أوضحنا في المقال السابق، بل يتجاوز ذلك إلى معظم أنشطة الناس غير الحيوية كالتعليم والتقاضي وغيرهما.

أما التعليم فقد كان - في صوره البسيطة في الكتاتيب ومعلم القرآن وحتى في المدارس النظامية في سنواتها الأولى - متحرراً من أجهزة الانضباط المركزية، ومن قوانين التنميط العمومية التي نشأت مع بناء الدولة الحديثة. ولهذا لم يكن هناك قانون يلزم الناس بالانتظام في التعليم في سن معينة بل كانت المدرسة تعج بطلاب من مختلف الأعمار، كما لم يكن هناك قانون يلزم الطلاب بالحضور اليومي غير المنقطع إلى المدرسة، بل كثيراً ما كان الأولاد يتركون مقاعد الدراسة بمجرد بلوغهم سن العمل ويلتحقون مع آبائهم للعمل في البحر أو الزراعة، وربما تأتي أيام على المدرسة لا تجد فيها إلا نصف طلابها. وفي هذا السياق يذكر تشارلز بلغريف، في تقرير التعليم للعام / ، أن عدد المدارس في هذا العام بلغ مدارس حكومية، وبلغ عدد الطلاب طالب و طالبة، إلا أنه «لا يداوم على الحضور يومياً كل هذا العدد من الطلاب» (مئة عام على التعليم النظامي في البحرين، ص). أما عن المدرسة الجعفرية في العام / فيلاحظ بلغريف تناقص عدد طلابها «وعدم التزامهم بالحضور وخلو المدرسة في معظم أيام السنة من ثلاثة أرباع طلابها» (ص). وفي أكتوبر تشرين الأول العام كتب مدير مدرسة الحد الابتدائية للبنين رسالة حزينة إلى مدير المعارف يقول فيها: «أود إبلاغكم يا سيدي بأن المدرسة قد غاب عنها اليوم أكثر من نصف التلاميذ وعرفنا أن السبب هو أن آباء التلاميذ أخذوهم معهم في موسم الغوص، هذا ما لزم ودمتم» (حكايات من البحرين، ص).


المنطق ذاته

وهذه حال لا تميز التعليم وحده، بل كانت معظم أنشطة الناس تجري وفق المنطق ذاته، فمجال التقاضي كان مفتوحاً في الزمان والمكان، وكان أشهر قاضيين في البحرين: الشيخ قاسم المهزع والشيخ خلف العصفور يستمعان إلى القضايا في بيوتهما الخاصة من دون وجود موظفين أو مكاتب وأحياناً من دون تسجيل القضايا كتابياً. وبتعبير الشيخ إبراهيم المبارك فقد «كان القضاء في البحرين من قبل على الرسم الشرعي استقلالياً يحكم القاضي بعلمه ثم لا يتعين في محل بل القاضي قاض أين ما كان وفي أي زمان ووقت حصل الترافع عنده» (حاضر البحرين، ص)، بل كان الناس «يرجعون في المرافعات إلى أي عالم كان فيحكم بينهم فيسلمون إليه ويعتقدون أنه حكم الله» (ص). هكذا كان التقاضي، ومثله أيضاً كانت معظم الأعمال والحرف التقليدية إذ كان معظمها يتم في فضاء مفتوح، كما كانت متحررة من صرامة قانون التأطير والإخضاع والمركزة وأنظمة الانضباط العمومية. وبسبب هذا الغياب كان كل شيء متنوعاً ومختلفاً ومتحرراً.


تحول بعد قيام الدولة

غير أن كل شيء تحول بعد قيام الدولة. والحق أنه لا يمكن تفسير تجذر حال التنوع هذه في المجتمع البحريني التقليدي إلا من خلال غياب الدولة بمعناها الحديث كجهاز انضباطي مركزي وشامل وينتشر في كل مجالات الحياة الخاصة والعامة. وأتصور أن انعدام هذه الدولة هو السبب في غياب فضاء تواصل عمومي ينتظم فيه الجميع، وينصهر داخله الجميع من دون تمايزات سابقة. وربما كان غياب مثل هذا الفضاء التواصلي العمومي هو السبب الحقيقي وراء تكاثر القرى واللهجات المحلية في بلد صغير مثل البحرين. وهذه ظاهرة محيرة ولافتة، وبحسب ملاحظات القدماء - مثل ابن المجاور (ت هـ م) وأبو الفداء (ت هـ م) والبحار العربي أحمد بن ماجد (ت هـ م) والوثائق البرتغالية - فإن عدد قرى البحرين كان يتراوح بين () و() قرية. وينقل الشيخ محمد علي آل عصفور عن مشايخه أن «عدد قرى البحرين في الزمان السابق بعدد أيام السنة... والقرى المعمورة الآن أزيد من مئتين» (البحرين: عيون المحاسن ومحاسن أعلام العلماء والشعراء، ص).


عدد ضخم من القرى

ويبدو أن ما كان يلفت القدماء في ظاهرة تكاثر القرى هو وجود هذا العدد الضخم من القرى في بلد محدود في مساحته وعدد سكانه مثل البحرين، الأمر الذي حمل بعض المحدثين على التسرع في الاستنتاج بأن هذا «العدد مبالغ فيه جداً ومن المستبعد أن يكون صحيحاً» بل هو عدد «لا يقبله العقل». أما إشارات القدماء فجرى تفسيرها من خلال افتراض مؤداه أن هؤلاء كانوا يخلطون بين جزيرة أوال والبحرين التي كانت تشمل جميع الأراضي في شرق الجزيرة العربية والواقعة بين البصرة وعمان (تاريخ النفوذ البرتغالي على البحرين، ص). والحق أن كل هؤلاء القدماء كانوا واضحين بما فيه الكفاية، ولهذا تراهم يميزون بين إقليم البحرين، وبين جزيرة أوال، وهم حين يشيرون إلى عدد القرى فإنهم يقصدون جزيرة أوال لا إقليم البحرين. ثم إن افتراض الاشتباه لدى القدماء لا ينهي المشكلة، لأن أحد المؤرخين المحدثين يذكر أن عدد القرى المعمورة في البحرين يزيد على () قرية، وهذا العدد الذي يذكره الشيخ محمد علي آل عصفور الذي انتهى من تصنيف كتابه في العام م ليس قليلاً، وخصوصاً إذا عرفنا أن لكل قرية من هذه المئتين أو يزيد، مهما صغرت أو كبرت، لهجتها الخاصة والمتميزة كما لو كانت هذه القرى تعيش في عزلة وفي شبه قطيعة إحداها عن الأخرى ما جعلها شبه مقفلة على فضاء تواصلي خصوصي مقصور على أبناء كل قرية على حدة. ومن المعروف أن اللهجات لا تزدهر ولا يكتب لها البقاء، بالدرجة الأولى، إلا في ظروف العزلة الحقيقية أو المتخيلة.

وعززت هذه العزلة من إمكان تكاثر القرى، وذلك من خلال انشقاق الجماعات الصغيرة عن الجماعات الكبيرة، أو من خلال الانتقال الجماعي من منطقة إلى أخرى وهو الأمر الذي خلق ظاهرة «القرى الخربة» المهجورة في البحرين. وهنا لا ينبغي أن ننسى أن «خيرات البلاد» الوفيرة والمتاحة أمام الكسب البشري كانت عاملاً أساسياً في تعميق هذه الظاهرة. فقبل أن تنشأ الدولة كانت مواقع هذه «الخيرات» متنوعة ومنتشرة في طول البحر وعرضه، وعلى امتداد الأرض الصالحة للزراعة، وفي الأفق المفتوح للمتاجرة، وهو ما جعل التجمعات القروية الجديدة الناشئة بحكم الانتقال أو الانشقاق لا تجد صعوبة كبيرة في العيش بصورة مستقلة في التجمع القروي الجديد اذ كانت «خيرات الحياة» وفيرة بدرجة تلبي حاجات الناس الأولية البسيطة في التجمع الناشئ. وهو ما جعل معظم القرى تعيش حال «الاكتفاء الذاتي» إذ كان بإمكان الخيرات المتوافرة أن تلبي حاجات الناس.


القرى واللهجات

هناك إذاً علاقة وثيقة بين تكاثر القرى - ومن ثم تكاثر اللهجات - وبين حال العزلة وحال «الاكتفاء الذاتي» النابعة من انتشار «خيرات الحياة» الوفيرة وتبعثرها على مواقع شتى وتحررها من احتكار جهاز مركزي كالدولة. وعلى هذا فلا سبيل أمام الدولة لوقف ظاهرة تكاثر القرى واللهجات إلا أن تعمد إلى كسر طوق هذه العزلة من خلال بناء شبكة واسعة من الطرق والردوم والجسور بين كل القرى والمدن. وكذلك من خلال القضاء على حال «الاكتفاء الذاتي» من الخيرات داخل كل القرى والمدن أي بجعل القرى تحتاج لتقيم أود الحياة فيها إلى خارج القرية، والاحتياج إلى الخارج كفيل بأن يمهد الطريق لتأسيس فضاء التواصل العمومي. وما كان بإمكان الدولة أن تنجز ذلك إلا بعد دخول البلاد في مدار «الاقتصاد الموسع» اقتصاد السوق العابر لحدود القرى والمدن، وهو ما تزامن مع كساد تجارة اللؤلؤ المحلي، واضمحلال الزراعة المحلية بعد أن نقصت مياه الينابيع والعيون الطبيعية، وبعد أن وضعت الحكومة ضوابط على حفر الآبار والعيون، ما قوض حال الاكتفاء الذاتي وجعل معظم القرى قائمة بغيرها، ومحتاجة إلى ما يجلب إليها من خيرات من الخارج. وهو ما جعل بناء الدولة في البحرين - من خلال ظهور الشركات وتأسيس الدوائر الرسمية - أشبه بعملية إنقاذ شاملة لكل ما أصيبت به البلاد من ضعف ومجاعات متوالية. وهذا ما عبر عنه الشيخ إبراهيم المبارك في نص بالغ الأهمية ننقله هنا على طوله، يقول: «وحرفة أهل البحرين في الغالب الغوص والتجارة باللؤلؤ وغيره وصيد الأسماك والفلاحة الخاصة بالنخل والبقول، وليس في نخيلها وزروعها كفاية لولا أنه يجلب إليها من الخارج. ولو عمرت أراضيها الصالحة للزراعة وتحصلت على المياه الكافية لأغنتها عن الخارج، ولكن الحكومة أوقفت سير الفلاحين بتحديد استنباط المياه عند تنبه رغبتهم للزراعة. ولولا ذلك لتحرفوا بالزراعة بجد ونشاط، ففي الإمكان أن تصبح البحرين قائمة بذاتها. وحدث أن نقصت المياه من الينابيع الطبيعية فهلك غالب نخلها وزروعها، وتبعها ضعف أعمال الغوص وتجارة اللؤلؤ وتحديد في نفس التجارة العامة وأشياء أخرى، فأصيبت بضعف شديد في المعيشة ومجاعات متوالية حتى مثلت شركة النفط فقويت الأعمال وانطلقت التجارة وتتابعت الشركات وتوسعت الاقتصاديات فحسن حالها واحتفظت بكرامتها» (حاضر البحرين، ص).


تفسير العزلة

ليس غريباً أن تكثر القرى واللهجات في بلاد شاسعة وكثيرة الجبال والغابات، إلا أن السؤال هو كيف يمكن تفسير هذه العزلة في بلد صغير كالبحرين ولا تفصل قراه الواحدة عن الأخرى لا جبال ولا غابات؟ وهنا لا ينبغي أن ننسى أن البحرين أرخبيل مؤلف من مجموعة من الجزر، وأن هذا الأرخبيل كان أشبه بجسد مقطع الأوصال. ومع ذلك لا ينبغي أن نتجاهل حقيقة أخرى وهي أن صغر مساحة هذا الأرخبيل - وكذلك محدودية عدد سكانه - كان ينبغي أن يكون عاملاً مساعداً في تعزيز فضاء التواصل العمومي بين البحرينيين. وهو العامل الذي وفر فرصة ذهبية للدولة، حين ظهرت، وذلك حين نشطت في المركزة الواسعة لكل مجالات الحياة في هذه البلاد، فصار كل شيء تحت مجهر المراقبة الدقيقة والتفصيلية بحيث لا يغرب شيء عن عين هذه الدولة، وذلك عن طريق شبكة واسعة وهائلة من أجهزة الانضباط وأدوات المراقبة والتحديق

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1378 - الأربعاء 14 يونيو 2006م الموافق 17 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً