كثيرون هم الذين يشعرونك برهبة ما ساعة تريد للبساط أن يكون «أحمديا» معهم ليس لأنهم يأبون عُرْف المجالسة بكل ما يحمله من بياض مفتوح على الأفق والورد، بل لأن الوقت لم يُتَح لك كي تكون اكثر قدرة على اكتشاف ما تظن أنهم يعمدون الى اخفائه. لتكتشف أنك تخفي أكثر مما يعلنون.
بدر الدوسري يتجاوز الحالة والظاهرة، لأنهما عابرتان، وهذا الشاعر القادم من «أزقة المطر» يأبى أن يكون عابراً في نص عابر. أي توصيف في هذا الصدد يظل محض محاولة للاقتراب من الطاقة الخلاقة التي يتمتع بها، والرؤية والرؤيا التي ينثرها على فقراء البصر والبصيرة من حوله، من دون أن ينسى الذين ولدوا وهم مكامن إشعاع. «ريضان» حاولت أن تفتح كوّة في جدار عزلة سميك فكان هذا الحوار:
ثمة اشتغال على المكان في الكثير من قصائدك واشتغال على ملامح وصور من الطفولة والبدايات. هل يكشف ذلك عن حرص أو ربما حنين لتأبيد حال الطفولة في النص؟
- سأعترف أولاً بأن صلتي بالشعر ومنذ البداية تشكلت في غيم المكان، بين حنين غائم وطفولة كان الصمت والهدوء رعدها الأقوى والأجمل. كنت أكثر اخوتي جنوحاً للركض والقفز على كل ما يصادفني في الطريق، وربما اعترف بأن ذلك كان مصدراً لذيذاً لسعادتي لأنه شكل علاقة حبي الأولى مع أمي. أحب أمي كثيراً، واحسست منذ البدء بأنها ذاكرة من الأماكن التي لم أتبين ملامحها بسهولة. كنت أنمو، وثمة حليب مدهش يرافقني في كل مكان.
لا يمكن أن انسى شعوري وأنا أخطو خطواتي الأولى... وفي البعيد... امرأة يجلس الشعر بين يديها (جدتي) وهي توصيني بأن أكون وفياً لأوهامي وأميناً لفضولي، ومن لحظتها وأنا لا أقوى البعد عن بلل الشعر، بل أتشهاه لأنه ملاذي الذي يحرسني من بقاياي النائمة.
أليست طفولتنا هي ما نصادفه طوال حياتنا... وخصوصاً في الكتابة؟!
لا أعرف إن كنت اشتغل على المكان في الكثير من قصائدي، ولكن كل ما أصبو لمعرفته أن أجد لقصائدي مكاناً يزخر بمخيلة شديدة الدفء والطراوة.
تمعن في اجتراحك للغة ربما تبدو مستفزة وعلى غير توافق مع السائد من النصوص. ماذا تقول؟
- ربما يرجع ذلك لوصايا جدتي بأن أكون وفياً لأوهامي مقبلاً على الشعر بتأجج غامض ولذيذ.
أجمل ما أشعر به وأنا أكتب هو ضياع ملامحي بين حضرة هذه اللغة الآسرة وهي تهدر وتهطل كليل كاسحٍ من الأنهار والأسئلة.
للشاعر، أظن أن اللغة هي هدفه الأول والأجمل ولا أعني باللغة هنا مفردات الشاعر وعباراته بل أعني صفات كلامه وعادات ألفاظه وعباراته محولاً كل ما يراه ويبصره من جملة لغوية إلى جملة شعرية زاخرة بالحب وجسارة القلب وجهله.
منذ طفولتي وأنا اتجنب الطرق العامة موغلاً في الدروب التي لم يطأها أحد... وربما سبب لي ذلك الكثير من الأذى والنكران ولكن ما عساي أن أفعل؟! كنت مسكوناً بغرور التفرد مع علمي تماماً بمدى صعوبة ومشقة ما أفعل!
أعشق مخاتلة اللغة وكشف مكائدها وكنوزها وأحاول في كل قصيدة أن أطارد طفولتي وفاء لكثير من أوهامي الجميلة.
تذهب في تجريبية لغوية في القصيدة. وملاحظتي عنها أنها لاتزال متحفظة. بمعنى آخر لاتزال ترسل اشارات على أنها لم تخرج عن تفاصيل المكان ووعيه... ما هو تعليقك؟
- بأي شكل من الأشكال لا يعني عدم نجاحي في الذهاب إلى فتنة اللغة بأني تنازلت عن هذا الذهاب. يزداد توهج رغبتي في المعنى لينابيع لم تكتشف في اللغة وعنها، وأكثر ما خشيت أن أقيد نظرتي مهملاً بذلك كل جماليات اللغة وسحرها.
أميل كثيراً إلى ما ذهب إليه قاسم حداد من أن الاحتفاء باللغة شرط أول لتخلق الحال الشعرية إذ الصورة الفنية وطاقة المخيلة لا تتحققان بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة. وإذا كنت تزعم بسؤالك أنني مازلت أراوح في تفاصيل المكان ووعيه فلا أزعم أنني أجيد الحديث عن تجربتي وامكانها ولكن أرجو أن تسعفني تلك الأماكن المدهونة بالطفولة بمزيد من الارتباك الجميل، فأنا لست مشغولاً بالنهايات وأفضل التمتع بكل تفاصيل الرحلة، أنجح تارة وأفشل تارة أخرى وهذا كله ما يدفعني للمزيد من التجريب إخلاصاً للتفلت الذي يسكنني.
أحب أن أبدو عاريا أمام كل نص أكتبه، وفي كل مرة رافضاً كل قمصان السائد من الكلام.
لا أنكر عشقي للانزياح في الحياة والكتابة بالتحديد لأني بها أصوغ حياتي.
ما الذي أسهم في فرض هذه العزلة من حولك. العزلة ضمن إطار اتصال الساحة المباشر مع نصك؟
- لا أخفي احتفائي ودهشتي بكل هذه الأسئلة لأني وبكل صراحة أعلنها أنه خلال تجربتي الشعرية منذ عشرين عاماً لم أواجه بأسئلة مهمة كهذه، بل ولا أبالغ إذا قلت إنني لم أسأل بتاتاً!
أذهب بتوهمي مع أنسي الحاج حين قال: كنت أظن أن لا أجمل من الحب حتى اكتشفت الحرية.
ما اردت قوله إن عزلتي اختيارية إلى أبلغ مما أعرف عنها ومفردة أو عبارة «فرض هذه العزلة» لا اتفق معها كثيراً وإن كنت لا أنفي وجود أسباب كثيرة تفرض العزلة على أي شاعر لم يتذوق طعم الحرية بعد.
أجمل ما في الساحة الشعبية أنها لا تكترث! وعدم الاكتراث هذا أخذني إلى رحلة قدسية مع الشعر والكتابة، حين تحب أنت لا تكترث بمن يتفرج وينتقد... بل ويدبر لك الفخاخ والمكائد... حين تحب أنت الحياة...
لا أحب أو احبذ صوغ المبررات لهذه العزلة لإيماني العميق بأن التبرير أرض خصبة للكذب...
العز له، تمعنوا في هذه الكلمة وامعنوا التدبر في الفراغ الذي تعمدت الاشارة إليه.
ربما تكون أسئلتك هذه أحد أشكال الاكتراث المرتقب الذي أرجو أن يسعف نصي من الاتصال مع القارئ.
وحسناً فعلت بتحديد العزلة ضمن إطار الاتصال بالساحة لأنني ومنذ اخترت هذه العزلة الأخاذة وأنا ازداد شغفاً بالشعر والكتابة، ولا أبالغ إذا قلت إن أجمل امسياتي الشعرية كان جمهورها صديقاً واحداً يصفق لانصاته الشجر.
وكما قال أحدهم: الصمت نكران عظيم... وكذلك العزلة.
لا أحد يختلف على انك واحد من الأصوات الشعرية الكبيرة والملفتة. تلك العزلة الاختيارية قد تفسر على أنها تعال على الساحة ومستوياتها.
- أود لو كان هناك اختلاف على أنني واحد من الأصوات الشعرية الكبيرة والملفتة، المشكلة أن أكثرنا يعمم ويبجل ليشعرنا بدعمه المتواصل!
قد أكبر في العمر، وقد أكبر على صغائر الأمور وقد أتعالى على السيئ من الصفات والعادات ولكن بأي حال من الأحوال لا يمكنني أن اتعالى على الحب وعلى الناس، بل بالحب أكبر وبالناس أشعر بوجودي.
تفسيرات الناس عنك لن تنتهي ولكن هل سأل أحدنا نفسه: لماذا يختار العزلة؟!
أجدني مدفوعاً وبحب أن اقترحها على كل كاتب، ليجرب العزلة ويخلص لها وسيبهر لوداعتها وبراءتها وسيكتشف ما لم يستطع كشفه طوال عمره.
لم ولن أتعالى على أحد ولكن اخترت أن انصت لرذاذ الروح قبل المطر، اخترت أن اغرد من دون أن أشعر بالاحباط إن لم يسمعني أحد...
ثمة أكثر من مأزق مركب في هذه الساحة يتصل أولاً بحال من الادعاء والاستعراض. كيف تنظر إلى ساحة تتسم بذلك؟
- أنظر لها بعين الرأفة والشفقة، ساحة لا يجذبها إلا ضوء الشاعر نفسه بعيداً عن التعمق في تجربته والاشتغال عليها.
ساحة تنشغل في أكثر الاحيان خارج الشعر لتبجل موقعك الاجتماعي ونفوذك ليتم وببلاهة تصنيف الشعراء والشاعرات بحسب مراكزهم ووسامتهم ومكرهم وزيفهم.
المؤلم في الأمر أن هذه السلوكات رسخت مفهوماً مزيفاً لكل من لهم صلة بالساحة من شاعر وقارئ ومعد لصفحة تعنى بالشعر الشعبي.
ساحة مشغولة بكشف هوية «رنين» وطرد «قناص» من الساحة بماذا تريديني أن انظر لها؟!
أوافقك الرأي أنه مأزق مركب كلما توغلت فيه ازددت ارتباكاً وحيرة في فهم ملامحه واسبابه.
على رغم كل ذلك أجدني متفائلاً للشعر وان بدت مواقف الشعراء والقراء قابلة للخذلان واليأس.
كيف لا أتفاءل وأنا أرى انحياز هذه الصفحة للجميل من الشعر؟ كيف لا... وأنا أقرأ هذه الأضواء على بعض شعرائنا الجميلين؟ كيف لا أتفاءل وأنا أرى دروب الحلم تتسع بعدما تراكم عليها الغبار لسنين طويلة؟
لابد أن عزلة تمعن فيها قد دفعتك إلى إعادة النظر في نصنك بالدرجة الأولى وما يتم ضخه في الساحة بالدرجة الثانية، أليس كذلك؟
- هو كذلك. كلما أمعنت في طراوة عزلتي جعلتني أشعر بأني القصيدة الحلم، اقتربت كثيراً من بساطة اللغة ولا أقول سهولتها إذ الفارق شاسع بينهما.
صرت أكثر دفئاً مع كل نص أكتبه، وان تسلل البرد إلى أطراف روحي شعرت أكثر بأهمية ذلك الدفء والحنان.
تخلصت كثيراً من أوهام ليست لي كالبحث عن الشهرة وتقلد المناصب ورئاسة المنتديات والجمعيات كما تخلصت من أدوار تم لصقها بكل كاتب في تغيير العالم وإصلاح المجتمع ولم أعد مأخوذاً وميالاً للمجاملات التي يتداولها الجميع في الساحة الشعبية. لا أحب البعد عن قصيدتي وعزفي وجنوني.
اعرفك - بحسب ما بلغني - أنك قارئ نهم ومتمكن من خلال لغتين. كيف يسهم التمكن في معرفة لغة أخرى في ترتيب نصك؟
- في كثير من الأحيان التمكن يسهم في تخريب نصك وليس في ترتيبه، كل ما في الأمر هو محاولة اكتشاف خطورة وفداحة هذا الترتيب أو ذاك التخريب.
نحن بحاجة إلى إنصات مخلص حتى نستدل على روعة وفتنة اللغة، وايضا نحتاج إلى جهل مستحق ولذيذ لندرك ثراء اللهجة أو اللغة المحكية.
لا تميل إلى الصدام بطبيعة شخصيتك، ولكن يبدو أن أهم شروط الصمود أمام لا أخلاقيات تتسم بها هذه الساحة أن يكون المرء مهيئاً لذلك الصدام في أي وقت. هل أنت على استعداد لذلك؟
- لأجيبك على هذا السؤال ثمة حكاية يرويها أوشو في أحد كتبه قد تلخص موقفي من الصدام.
الحكاية باختصار عن قبيلتين استمرت الحرب بينهما أربعين عاماً، وكان سبب تلك الحرب صراع مستميت على النهر الذي يجري بينهما، كل قبيلة تعتقد أنها الأحق بهذا النهر. ومرت السنون واشتد العراك وتكدست الجثث من كلا القبيلتين في محاولات حثيثة ومدمرة لامتلاك النهر. وجاء اليوم الذي التقى فيه قائد كل قبيلة بالآخر ودار بينهما حديث قصير لوضع نهاية لهذه الحرب الطويلة لفداحة ما تكبدته كل قبيلة من قتلى وثكلى ودمار لا يوصف. وكان هناك حكيم يجلس بالقرب من النهر وقررا أن يتحدثا معه لينصحهما أو يهديهما لنهاية عادلة. الحكيم وكعادته في اختصار وتكثيف كلامه قال لهما: هل أدركتما طوال كل هذه السنوات من الحروب المتتابعة أن النهر يجري ولم يشرب منه أحد؟ هل أدركتما ذلك؟
أيقنت أن الصدام يبعدك عن النهر... عن الشعر... عن الحب عن الحياة، ولذلك فضلت أن أكون قريباً من النهر ودافئاً مع الشعر وقوياً بالحب.
ربما تكون تجربتي مع الصدام متواضعة وربما ذلك أجمل ما فيها حتى أدركت من خلال تجارب عدة أن معظم أشكال الصدام قابلة بشكل كبير للخذلان والانهيار والخسارة، ولا يبق في الأخير إلا وفاؤك للكتابة!
لم أعد بحاجة إلى أي صدام، وكل ما احتاجه هو حب ما أفعل وصرت حين أدخل الغابة لا أطلق الرصاص، حينها تهرب كل الطيور وتذعر كل المخلوقات. يكفيني أن أجلس تحت ظل شجرة لأحاط بالأزهار والتغريد والرقص الجميل.
صرت أنحاز للحوار المشاكس المختلف... واترك كل صداماتي مع نصوصي فهي أحق بها ولها.
إذا كنت تتجنب الصدام أو لا ترى فيه خياراً مقنعاً. هل مرد ذلك إلى عزلتك؟
- ربما كان لعزلتي الأثر البالغ في ذلك ولكن كما ذكرت لك لا أرى أية دواعٍ للصدام، كن كالماء كلما واجهته صخرة أو عثرة سلك طريقاً ليستمر في الجريان.
الفائز في الصدام أكبر الخاسرين...
تجربة ملحق «حياة الناس - قطوف» الذي تحول إلى مجلة مستقلة، لابد أنه أضاف إليك الكثير. كيف تنظر إلى تلك التجربة في ظل فراغ من المبادرات الجريئة والفاعلة؟
- كما تعلم أن ملحق حياة الناس - قطوف كان أشبه بملامسة الحلم من يديه، ولكن كما قلت إن معظم المبادرات والمشروعات ينتهي بها الدرب إلى الخذلان لا تهميشاً من جمالية تلك المبادرات وتلك المشروعات الثقافية ولكن أرجع السبب في ذلك إلى أمر مهم وهو أن تلك المبادرات والمشروعات الثقافية تحتاج إلى زمن ناضج، تحتاج إلى واقع جريء وإلى ذكاء يضمن استمرارها من دون أن يمس بمحتواها. نحتاج إلى مخاطرة أكبر لنحظى بفرص أكثر، وحين أقول مخاطرة فلا أقصد الصدام ولكن ذلك التلاحم والاخلاص والتفاني والحب والحرية...
تقرأ خريطة المهاترات والتمترس وراء أسماء مستعارة ومكشوفة في الوقت نفسه، ما الذي يوحي به ذلك؟
- بكل بساطة... انظر إلى وضع الساحة وسترى الاجابة بوضوح.
تشكل مع اسماء لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة مشروعاً ابداعياً مشتركاً، لكنه في ظل شتات بيّن. كيف يمكن لذلك المشروع أن يؤتي نتائجه؟
- انظر إلى ذرات الثلج وهي تتجمع مكونة بذلك جبلاً جليدياً صلداً، انظر إلى حبات المطر وهي تهطل مرسلة لنا الفرح بسماء مبتلة...
يحضرني مقطع جميل للشاعر الرائع خليفة اللحدان...
...
...
واحنا عصافير سدره
لا غنّى واحد
كلنا نغنّي...
تجربتك في النص المشترك مع الشاعر الجميل أحمد مطلق واحدة من أكثر التجارب ترسخاً في مملكة البحرين، هل ثمة جد في المقبل من تلك التجربة؟
- لايزال الشاعر الجميل أحمد مطلق من أجمل قصائد هذه الحياة، ومازلنا نبحث ونغامر لاكتشاف أراض جديدة تغرينا بمخاطرة أجمل.
هناك تجارب جديدة ومشتركة مع أسماء أخرى أتمنى أن تضخ نفساً جديداً ومغايراً بكل ما تحمله من وهج البدايات الراعشة.
هل استرعت انتباهك تجربة جميلة ورأيت امكان الدخول معها في التجربة نفسها؟
- كما قلت هناك تجربة سترى النور قريباً... أتمنى أن تكون زاخرة بالأحلام لوداعة نومها
العدد 1380 - الجمعة 16 يونيو 2006م الموافق 19 جمادى الأولى 1427هـ