العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ

لماذا كتب ابن خلدون مقدمته؟

كيف كتب ابن خلدون مقدمته؟ وما هي العوامل التي دفعته إلى انجاز هذا العمل؟ ولماذا فكر أصلاً في كتابتها؟

يذكر في نهاية مقدمته «أتممت هذا الجزء الأول، المشتمل على المقدمة بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمئة. ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته». (ص710)

يمكن تقسيم خاتمة المقدمة إلى فقرات ثلاث:

الأولى انه وضع المقدمة وألفها في مدة خمسة أشهر. والثانية انه نقح المقدمة وهذبها. والثالثة انه قام بتأليف تاريخه.

التتابع المذكور لا يلغي فرضية أخرى وهي أن التنقيح والتهذيب استمر طوال فترة كتابة تاريخه وكان يعود إلى المقدمة لتوضيح فكرة أو تعديل اخرى طرأت معه خلال مرحلة انهماكه في تأليف تاريخه. والقول ان ابن خلدون كتبها في خمسة أشهر ثم نقحها وهذبها (لم يحدد الفترة) ولم يعد لمراجعتها طوال سنوات أربع قضاها في تأليف تاريخه فيه كثير من المبالغة.

يرجح انه كان يعود اليها لتهذيبها وتنقيحها كلما وردت خاطرة أو توضحت صورة غامضة. ويذكر طه حسين في كتابه عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» انه استمر في تنقيحها وتهذيبها طوال حياته وخصوصاً بعد خروجه من قلعة ابن سلامة وذهابه إلى مصر وتوليه منصب قاضي المذهب المالكي في القاهرة لمرات عدة.

ويرجح حسين «من الممكن ان نعرف منها فصولاً برمتها كتبت في مصر، وهذا هو السبب في ان نسخ المقدمة تختلف احياناً، اذ يحتوي بعضها فصولاً لا يحتويها بعضها الآخر. ومن المفيد جداً ان نستطيع ان نضع تاريخاً لتنقيح هذه المقدمة لأن ذلك يوضح لنا تطور فكر ابن خلدون وآراءه الفلسفية، على ان ذلك ليس في الامكان اذ لا توجد لدينا جميع النسخ الاصلية، ومع ذلك ففي وسعنا ان نظفر ببضع لمحات من ذلك التطور بمقارنة النسخ المختلفة». (ص 31 - 32)

ويرى حسين ان ابن خلدون «ارسل نسخة بالنص الأول إلى بلاط فارس ونسخة منقحة إلى بلاط تونس، فلما قدم إلى مصر اهدى إلى السلطان برقوق نسخة بلا ريب هي الصورة النهائية». فطه حسين يرى ان عالم مصر ومناخها السياسي والفكري أثرا على ابن خلدون. ففي مصر دولة راسخة ومستقرة تختلف عن تلك الدول - القبائل التي وصف عدم استقرارها وتقلبها في النسخة الأولى من مقدمته فقام بتعديل بعض احكامه وادخال سلسلة افكار اضافية لتوضيح تعقيدات تطور الدولة وتفككها الامر الذي افقد مقدمته تماسكها النظري لكثرة التنقيحات والاضافات والتعديلات التي أقدم عليها.

فرضية طه حسين ليست بعيدة عن الواقع لانها تنسجم كثيراً مع شخصية ابن خلدون وتقلبه الفكري من جهة وحبه للمعرفة والاستطلاع من جهة اخرى. فالرجل نجح إلى حد كبير في مزاوجة علوم عصره بعلوم ماضية، كذلك ابتكر منهاج عمل يؤلف ويدمج بين علم الاصول وعلمه العمراني مستخدماً مفردات الفقه بأسلوب جديد نقل فيه المصطلحات الأصولية من عالم المعرفة الدينية الى عالم المعرفة الاجتماعية.

غير ان محمد عابد الجابري له آراء تخالف وجهة نظر طه حسين على رغم اتفاقه معه في مسألتي التهذيب والتنقيح فهو يوافق على «ان هناك فعلاً فقرات، وربما فصولاً اضافها ابن خلدون إلى المقدمة بعد رحيله إلى مصر». لكن عملية التهذيب والتنقيح «لم تتناول في نظرنا القضايا الاساسية في المقدمة، تلك القضايا التي تعكس جوهر الفكر الخلدوني، بل كانت فقط عبارة عن تصحيحات وتعديلات واضافات لم تمس جوهر الموضوع بقدر ما كانت مكملة وشارحة له».(العصبية والدولة، ص 61 -62).

يطرح الجابري اسئلة بالغة الاهمية تتعلق بالفترة الزمنية التي قضاها لتأليف مقدمته وتاريخه استناداً إلى كلام ابن خلدون نفسه، فهو قضى أربع سنوات في القلعة (776 - 780 هجرية/ 1375 - 1379 ميلادية)، ثم يقول انه ألف مقدمته في خمسة أشهر آخرها منتصف عام 779 هجرية (1378 ميلادية)، (أي قبل عام من مغادرته القلعة) ثم كتب تاريخه في اقل من سنة مرض خلالها مرضاً شديداً. ويسأل الجابري «ماذا كان يفعل في الفترة الممتدة ما بين وصوله إلى القلعة وشروعه في المقدمة، ومدتها عامان ونصف». ثم يسأل: «كيف امكن لابن خلدون ان يكتب مقدمته، على ما هي عليه من التركيز والابداع والاحاطة والشمول في خمسة أشهر، ثم كيف امكنه ان يشرع في كتابة التاريخ، ويملي الكثير من حفظه حول اخبار العرب والبربر وزنانة، خلال سنة واحدة، هي نفسها السنة التي مرض فيها مرضاً شديداً» (ص 60).

هناك أجوبة كثيرة ومحيرة تدور حول الموضوع المذكور منها جواب محمود اسماعيل في كتابه: «نهاية اسطورة - نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل اخوان الصفا» وفيه اتهام صاحب المقدمة بسرقة افكار اخوان الصفا لانه من الصعب برأي الكاتب انجاز عمل «يحتاج إلى عقود من الزمن» في مدة خمسة شهور. ويورد محمود اسماعيل قرائن عدة تتعلق بالاسلوب وتشابه الافكار إلى «طبيعة ومستوى التأليف والكتابة وطرح القضايا والاشكاليات» وهي امور تحتاج إلى وقت «لم يتوافر لابن خلدون» (ص 13 - 14) لذلك اقدم على «نثر الاراء التي اقتبسها من الرسائل في مواضع متعددة من المقدمة وتحت عناوين مضللة» (ص11). ويورد اسماعيل الكثير من الامثلة التي يراها متشابهة بين المقدمة والرسائل ويذكر في الموضوع ان علي سامي النشار كشف في كتاب له «سطو ابن خلدون على كتابات ابن الازرق» كذلك توصل «احد الدارسين الى اكتشاف ثلاثة نصوص في المقدمة منقولة عن ابن النفيس» (ص 14).

وهكذا يقوم محمود اسماعيل بتحويل «معجزة» ابن خلدون إلى مشروع سرقة قام بتجميعه من هنا وهناك ثم تبويبه في فصول وعناوين لإبعاد الشبهة عن نفسه. ويرى اسماعيل ان قوة المقدمة وتجاوزها لعصرها وتقدم لغتها وقدرتها التنظيرية هي دلائل ضد ابن خلدون وخصوصاً اذا اضفنا إليها قرائن كثيرة مثل قصر المدة التي كتب فيها مقدمته وقلة أخلاقه وفساد سيرته وتجاهله لموضوع الاخلاق في ابوابه ونزعته الشمولية وضعف فصول المقدمة الاخيرة مقارنة بفصولها الاولى إلى نهاية الاتهامات التي تمتد على فصول كتاب «نهاية اسطورة».

ليس مهماً مناقشة أفكار اسماعيل وانتقاداته العشوائية وخصوصاً في عدم قدرته على تمييز الفارق الكبير بين نظريات ابن خلدون ونصوص «اخوان الصفا». ويمكن التركيز على تهمة واحدة نسب اكتشاف سرقتها للباحث علي سامي النشار وتقول ان صاحب المقدمة «لطش» كتابات ابن الازرق ونسبها إلى نفسه.

كيف يمكن ان يسرق ابن خلدون افكار ابن الازرق والاخير توفي في العام 896 هجرية (1491 ميلادية) اي بعد 88 سنة من وفاة صاحب المقدمة. العكس هو الصحيح.

ابن الازرق كما يذكر الجابري هو «من الجيل التالي مباشرة لجيل ابن خلدون» وقام بتلخيص المقدمة في كتابه «بدائع السلك في طبائع المُلك» (ص 136).

ويذهب عزيز العظمة في كتابه «ابن خلدون وتاريخيته» اتجاه الجابري في معرض تعليقه على قلة اهتمام المفكرين في القرن التاسع الهجري بالمقدمة باستثناء «عالم واحد فقط هو ابن الأزرق الذي كان آخر قاضٍ في غرناطة قبل سقوطها في ايدي صليبيي اسبانيا، أولى اهتماماً منهجياً للمقدمة» (ص 205).

اذا قارنا حماس اسماعيل في اتهاماته ومحاولات الجابري العاقلة في تفسير الخلل الزمني بين كتابة المقدمة وكتابة التاريخ وفترة الانقطاع عن العمل السياسي نجد ان الجابري نجح في تقديم تصور واقعي ومقنع للمسألة. فهو يرى ان كثيراً من الباحثين حددوا فترة الانعزال عند ابن خلدون في تلك السنة «التي قصد بها قلعة ابن سلامة» بينما تبدأ الفترة «قبل هذا التاريخ بعشر سنوات اي منذ نكبة أمير بجاية سنة 767 هجرية 1366 ميلادية» اذ عاش فترات استقرار مهمة وهي «7 سنوات مع ابن مزني في بسكرة وسنة في العباد واخرى في فاس» (ص 75). ونستطيع «من خلال ما تقدم ان نستنتج ان فكر ابن خلدون بالشكل الذي ندرسه في المقدمة قد تشكلت دعائمه في هذه الفترة بالذات(...) أما مرحلة استخلاص نتائج البحث فقد تمت في قلعة ابن سلامة» (ص 59). ويؤكد الجابري ان هذه الاشهر الخمسة غير كافية لتأليف المقدمة كذلك السنة التي تلت هذه الأشهر الخمسة غير كافية لكتابة تاريخه ويستنتج ان آراء ابن خلدون «المسطورة في المقدمة لم تكن وليدة ساعتها» فهو بدأ يفكر فيها قبل قرار التحاقه بالقلعة بسنوات كثيرة وخصوصاً «منذ انقطاعه إلى بسكرة عند ابن مزني» وانه خلال «تلك المدة الطويلة كان يجمع المواد اللازمة لتحقيق مشروعه في شكله الأصلي (...) وهذا يعني ان مشروع كتابة تاريخ بلدان المغرب العربي قد راود ابن خلدون، وعمل له، قبل انعزاله بقلعة ابن سلامة، بسنوات عديدة» (ص 62).

اذا صحت الفرضية المذكورة يمكن وضع التصور الآتي لمراحل تأليف المقدمة.

أولاً، وضع ابن خلدون الخطوط العريضة لعلمه الجديد (العمران البشري) ويشتمل الباب الثاني (في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل) والثالث (في الدول والملك والخلافة والمراتب السلطانية) والرابع (في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال) والخامس (في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الاحوال) والسادس (في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه). وهناك احتمال ان يكون قد كتب الباب السادس (الأخير) قبل غيره ليحسم مواقفه من الفلسفة والكلام والالهيات والمنطقيات والتصوف وغيرها من مصادر المعرفة قبل مباشرة كتابة الابواب الاخرى لكنه عاد ووضعه في نهاية المقدمة بعد ان اكمل عناصرها وجمع شتاتها. وهناك آراء تخالف المنحى المذكور وتقول ان الباب السادس (الأخير) كتبه في القاهرة بعد انتقاله اليها. ويرى الجابري ان هذا التحليل الذي قال به ايف لاكوست «لايستند إلى أي دليل» (هامش ص61).

ثانياً، بعد أن أنهى تأليف تلك الابواب في خمسة أشهر قام بتهذيبها وتنقيحها فاكتشف انه لابد من باب توضيحي يفسر الاطار النظري لعلمه الجديد فأقدم على كتابة باب جديد وضعه في أول المقدمة لشرح الاسس والقواعد التي اعتمدها كمقدمات نظرية (فكرية) لمنهجه العمراني (الاجتماعي).

ثالثاً، بعد ان أنهى تأليف تاريخه العام وصولاً إلى ايامه اعاد قراءة المقدمة ونقحها وهذبها من جديد وادخل عليها التعديلات والتصحيحات الاخيرة. فوجد انه لابد من مدخل اضافي أو مقدمة توضيحية تشرح سبب اقدامه على هذا النوع من التأليف والتفكير ورأيه في الحوادث وملاحظاته على كتب التاريخ ومذاهب المؤرخين.

اذا افترضنا صحة السياق الذي ورد أعلاه نستطيع الاستنتاج ان تبويب المقدمة ينسجم من ناحية الموضوعات وتراتبها لكنه لا يعكس بالضرورة ظروف كتابتها، اذ من غير المعقول ان يكون ابن خلدون قد فكر بالمقدمة كلها ووضعها بسياق هندسي منظم من السطر الأول إلى الاخير. فالمنطق يفترض انه كتب خطوطها العريضة ثم عاد اليها ونقحها وهذبها ثم وضع مقدمة لتلك الخطوط لشرح فكرته الجديدة ثم عاد وأدخل عليها التعديلات في فترة كتابة تاريخه العام ثم عاد اليها من جديد لينسق أبوابها وفصولها ويدخل الاضافات النهائية وأخيراً عاد ووضع تصديره للكتاب - المقدمة

العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:39 ص

      السلام عليكم مقال جميل لكن من هوكاتب المقال نرجو التعرف على هويته ارجو الرد مع الشكر الجزيل

اقرأ ايضاً