العدد 1343 - الأربعاء 10 مايو 2006م الموافق 11 ربيع الثاني 1427هـ

أدلجة الدين وأدلجة الحداثة (1)

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

سئل مرة المفكر الإيراني علي شريعتي عن الإنجاز الذي حققته الحركة الثقافية في إيران في مواجهة نظام الشاه، فأجاب: «تحويل الإسلام من ثقافة إلى ايديولوجيا». وتحويل الإسلام إلى ايديولوجيا يعني أن يكون أداة من أجل التغيير والتثوير. ومن الواضح أن شريعتي يستخدم مصطلح «ايديولوجيا» في وقت كانت فيه هذه الكلمة، كما يقول شريعتي نفسه، «كلمة سحرية تبعث بين الناس... وسوسة الحياة والتفكير وتدعوهم حتى لإبادة أنفسهم».

تحول الدين إذاً من ثقافة وتقاليد اجتماعية إلى ايديولوجيا ثورية و«اختيار عقائدي واعٍ». ولهذا يقيم شريعتي مقابلة بين الايديولوجيا والثقافة، وهي المقابلة التي قادته إلى المقابلة بين نوعين من الإسلام: الإسلام كثقافة، والإسلام كايديولوجيا. الإسلام الأول هو ثقافة سلبية مخدرة، والإسلام الثاني هو قوة فاعلة في التاريخ وفي خدمة الإنسان. فنحن إذاً أمام نوعين من الإسلام أحدهما ضد الآخر، فهناك «إسلام منحط، وإسلام يجني، إسلام يوجد الرجعية والتخدير، إسلام ينحر الحرية، إسلام يبرر الوضع القائم في التاريخ دائماً. وهناك إسلام كافح هذا الإسلام بعنف وراح ضحيته»، وبعبارة أخرى هناك «إسلام العدالة وإسلام الذين يقودون الناس إلى الطريق القويم، لا إسلام الخليفة والأرستقراطية الوراثية، إسلام الوعي الحر والإسلام الحركي لا إسلام العبودية وانعدام الوعي والجمود، الإسلام المجاهد لا إسلام الروحانيات السلبية». أما ما اختاره شريعتي بعد البحث والتفتيش فهو «إسلام الايديولوجية الذي يربي المجاهدين» لا الخاملين.

أدلجة المأثور الديني

وهذا ما حمل داريوش شايغان، وهو مفكر إيراني من جيل شريعتي نفسه (ولد شريعتي في العام 1933، وولد شايغان في العام 1935)، على تصنيف شريعتي في خانة «الإسلاميين الايديولوجيين»، بل هو «النموذج المثالي للايديولوجي» الذي تتمثل فيه كل عيوب الايديولوجيا من جمود ووعي زائف واختزالية.

وبالنسبة إلى داريوش شايغان فإن الإسلام قد تعرض كسائر بنى الحضارات التقليدية الكبرى، للأدلجة، وتحديداً لـ «أدلجة المأثور الديني»، وهي أدلجة تنطوي على التقهقر والانحدار وصعود «نزعة ظلامية جديدة» ناتجة عن نقطة تصادم تسببت في تمزق الإنسان بين مستويين أو بين شكلين من أشكال الحضور في العالم: الديني والحداثي، وذلك حين التقت الحضارات التقليدية مع الحداثة وجهاً لوجه.

وبحسب شايغان فإن هذه المواجهة غير المتكافئة قد قادت إلى أدلجة الموروث الديني، وذلك بعملية تفعيل أو تنشيط عنيف لهذا الموروث. أما بالنسبة إلى شريعتي فيمكننا أن نتصور أن عملية «التفعيل العنيف» هذه والتي نجحت في تحويل الإسلام من ثقافة إلى ايديولوجيا، إنما كانت خياراً فرضته ظروف تاريخية خاصة، وهو أصلاً خيار تكتيكي يهدف إلى مواجهة «التحدي الغربي الاستعماري» من جهة، وتغيير «النظام القمعي» من جهة ثانية. فالأدلجة إذاً أداة لتحقيق غايات سياسية تكتيكية من أجل أن يكون الدين قادراً على أداء وظائف التغيير والثورة.

حاكمية شريعة الله

إلا أن هذه الأدلجة خرجت عن طابعها التكتيكي وصارت خياراً استراتيجياً ومبدئياً لجماعات الإسلام السياسي، وصارت هذه الأدلجة تترسم «معالم على طريق» لا نهاية له إلا بقيام «الدولة الإسلامية» وتطبيق شريعة الله على العالم الذي يعيش اليوم كله، كما يقول سيد قطب، «في (جاهلية) من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها». ولا شفاء لهذا العالم من هذه الجاهلية إلا بحاكمية شريعة الله التي «تعني ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية... وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضاً».

هذا هو أوج الأدلجة التي تعرض لها الإسلام، وصيّرته ايديولوجيا «كاملة شاملة للكون، والحياة، والإنسان، والمجتمع، والدولة والنظام»، ايديولوجيا تملك تفسيراً وحكماً في كل صغيرة وكبيرة في هذا العالم من أصول السلوك إلى أصول المعرفة، ومن آداب لبس الحذاء ودخول بيت الخلاء إلى أصول الحكم والاقتصاد.

«الإخوان المسلمين»

والحق أن كل تيارات الإسلام السياسي قد اجتهدت في هذه الأدلجة التي جاءت تحت ظروف الابتلاء بالغرب. إلا أن بداية الأدلجة كانت على يد الإخوان المسلمين، حين رفعوا شعار «القرآن دستورنا»، وأن الإسلام نظام حياة كامل ومتكامل، وأن دعوته دعوة عامة شاملة تنظم شئون الحياة جميعاً. وبهذا صار الإسلام دين الحياة «يفتي في كل شأن منها ويضع له نظاماً محكماً دقيقاً، ولا يقف مكتوفاً أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لابد منها لإصلاح الناس. فهم بعض الناس خطأ أن الإسلام مقصور على ضروب من العبادات أو أوضاع من الروحانية، وحصروا أنفسهم و أفهامهم في هذه الدوائر الضيقة من دوائر الفهم المحصور. ولكنا نفهم الإسلام على غير هذا الوجه فهماً فسيحاً واسعاً ينظم شئون الدنيا والآخرة».

هذا جزء من رسالة لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا. وفي هذا الجزء يوضح - كما رأينا مع علي شريعتي - أن هناك ضربين من ضروب فهم الإسلام، الأول ضيق ومحصور قصر الإسلام على ضروب من العبادات وأوضاع من الروحانية، في حين أن الفهم الآخر، فهم الجماعة، هو فهم فسيح واسع ينظم شئون الدنيا والآخرة. وفي الرسالة ذاتها يذكر أن الفرق بين هذين الفهمين فرق في نوع الإيمان أساساً، يقول: «والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ أن عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين». وبهذا تكتمل الصورة بين الفهمين: الأول ضيق محصور وذو إيمان مخدر نائم، والثاني فسيح واسع وذو إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في النفوس ويحمل أصحابه «على نسف الجبال وبذل النفس والمال واحتمال المصاعب ومقارعة الخطوب». هذه إذاً هي الغاية من وراء أدلجة الإسلام، أو من وراء «الإسلام الايديولوجي» الذي بشر به علي شريعتي وبشرت به جماعات الإسلام السياسي من قبله ومن بعده. فالغاية إذاً من وراء هذه الأدلجة هو أن يتم تنشيط ذلك «الإسلام النائم المخدر» بطريقة الإيقاظ والصحو العنيف.

هذه إذاً هي الغاية المرجوة من وراء أدلجة الإسلام والتفعيل العنيف له: نسف الجبال وبذل النفس والمال... ولقد تسلم الجهاديون هذه الإشارة وراحوا فعلاً ينسفون البرجين في نيويورك، ويدكون العراق دكاً، وينشرون البلاء في كل مكان من مدريد إلى لندن، إلى الدار البيضاء، إلى الرياض، إلى عمّان، إلى القاهرة وشرم الشيخ وسيناء. كل هذا من عواقب أدلجة الدين؛ لأن الأدلجة تمنح المرء «أسباب الحياة، كما تقدم له الأسباب التي تجعله يضحي بحياته من أجلها، وتقدم في الوقت نفسه الأسباب التي تدفع المرء إلى أن يضطهد ويقتل. إن الايديولوجيا قاتلة، وخصوصاً عندما تكون مهددة من طرف ايديولوجيات مضادة».

إيمان نائم وإيمان يقظ

وما ينبغي أن نتأمل فيه هو أنه في الوقت الذي صار فهم الإسلام، كما يقول مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، فسيحاً واسعاً ينظم شئون الحياة والآخرة، في هذا الوقت صار صدر الإسلام ضيقاً بالتجاور والتزاحم مع الآخرين، وضاقت الدائرة على التعايش السمح بين البشر، وبين المسلمين أنفسهم الذين انقسموا بفعل الأدلجة إلى مسلمين ذوي «إيمان نائم مخدر»، ومسلمين ذوي «إيمان يقظ قوي». وغاب عن دعاة الأدلجة أنهم بذلك يخربون الدين في جوهره، ويزعزعون الإيمان في نفوس أصحابه. وهذا يذكر بحكاية يذكرها جلال الدين الرومي عن النبي موسى (ع) الذي «انزعج لمرأى راع ساذج كان يسبح بحمد ربه بلهجة رعوية، فأنابه، ما زعزع إيمانه العفوي». عندها جاءه عتاب الإله العنيف: «لقد فصلت عبدنا عنا. فهل تراك جئت من أجل الوصل أم تراك جئت من أجل الفصل». وفي هذا السياق يكون مفيداً التذكير برأي الشيخ محمد عبده في وظيفة الرسل والدين. فهو يحدد وظيفة الرسل والغاية من بعثتهم في أنها تلبية لحاجة بشرية، إلا أنها حاجة روحية، «أما تفصيل طرق المعيشة والحذق في وجوه الكسب، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعد للوصول إليه من أسرار العلم، فذلك مما لا دخل للرسالات فيه إلا من وجه العظة العامة والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير ذلك كله ألا يحدث ريباً في الاعتقاد بأن للكون إلهاً واحداً قادراً عالماً حكيماً». وينطوي هذا الرأي على إيمان بمكانة العقل الذي أودعه الله في البشر، لأن كل طرق العيش ووسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة، إنما هي مما «هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك». ثم يختم هذا الكلام بقوله: «ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب العالمين». وإذا عرفنا أن أدلجة الدين قادت إلى تحويله إلى ايديولوجيا شمولية تفتي في كل صغيرة وكبيرة، فهل نستنتج من ذلك أن هذه الأدلجة تنطوي، كما يفهم من كلام الشيخ محمد عبده، على «جهل بالدين»، وأنها «جناية» عليه «لا يغفرها رب العالمين»؟

ولكن السؤال الأهم هو هل كان بإمكان الحضارات التقليدية الكبرى، والإسلام على رأسها، أن يمر بمدار التغرب الحداثي الشامل من دون أن يعقب هذا المرور أدلجة للدين والمأثور الحضاري بصورة عامة؟ بالنسبة إلى يورغن هابرماس فإن دخول المجتمعات في مدار الحداثة سيهز «عمق ما كان يؤمن» للناس هويتهم ويقينهم «الراسخ في أعماق الذات»، وهذا يؤدي إلى تقهقر و«نكوص إلى ما دون المستوى الذي بلغته الديانات الكبرى التوحيدية إذ تتشكل الهوية في إطار الحوار مع الله الأحد». أما «البدائل الصغيرة عن الدين» فقد تكون «مذاهب ومجموعات هامشية متنافرة بصورة عجيبة»، وقد تكون لهذه المجموعات ايديولوجيا جذرية خاصة بالنواة «الناشطة السياسية اللاهوتية المجتمعة تحت شعار تغيير العالم».

الأدلجة نتيجة طبيعية

وبالنسبة إلى داريوش شايغان فإن الأدلجة «هي النتيجة الطبيعية لتلك الفجوة الأساسية» التي «حطمت منذ فجر الفكر الحديث كل البنى الكبرى للحضارات التقليدية». الأدلجة إذاً هي عاقبة المواجهة بين الحضارات التقليدية الكبرى والحداثة والابتلاء بالغرب. والحق أن هذا الرأي بحد ذاته لا يخلو، كما سنبيّن لاحقاً، من أدلجة تعرضت لها الحداثة هذه المرة، لأنه يقوم على «مسلمة» غير قابلة للمساءلة وهي أن الحداثة اليوم هي «الطريقة الإلزامية التي لم يعد بإمكاننا أن نحيد عنها»، وأنها «تجربة لابد منها، بل هي شرط ضروري لكل نهوض»، وهي بمثابة «كل متماسك لا يحتمل أي فرز. فالأجزاء لا تتحرك بمعزل عن الكل». فهذه أدلجة للحداثة لا تختلف عما تعرض له الدين من أدلجة، ولا تقل عنها خطورة

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1343 - الأربعاء 10 مايو 2006م الموافق 11 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً