العدد 3337 - الأربعاء 26 أكتوبر 2011م الموافق 28 ذي القعدة 1432هـ

القطرب: الأسطورة التي خلقها التطوُّر الدلالي

سبق لنا الحديث عن التطور الدلالي في سلسلة طويلة من المقالات، وقد تناولنا في بعض فصولها تأثير التعريب على التطور الدلالي للأسماء، وأعطينا مثالاً؛ إذ ذكرنا الطيور القرلى والقارية والقارور والقريوي، وأوضحنا أن هذه الأسماء اختلفت دلالاتها بسبب أنها أسماء معرَّبة عن أسماء لاتينية، ولكنها جاءت متقاربة وبذلك حدث اللبْس بينها في اللغة العربية، وهو لبْس بقي حتى يومنا هذا. وتناولنا في بعض فصول تلك السلسلة التطور الدلالي وأخطاء المترجمين، وأوضحنا كيف أن خطأ في كتابة اسم طائر الفقاقة باللغة الإنجليزية حدث قبل أكثر من مئة عام أنتج لنا عدة أسماء موضوعة لهذا الطائر وهي القميح وآكل القمح نتيجة ترجمة الاسم الإنجليزي المحرَّف، ومع كل هذه الثورة الكبيرة في العلم؛ إلا أننا مازلنا نجد من يروِّج لهذه الأسماء المغلوطة سواء الإنجليزية أو المترجمة عنها، والسبب ليس الخطأ الذي حدث قبل مئة عام؛ بل هو خطأ «النقل الأعمى» وعدم التدقيق في المعلومات المنقولة.

في الوقت الراهن أصبحت هناك تراكمات كبيرة من الأخطاء العلمية واللغوية، وذلك بسبب تطوير وسائل تبادل المعلومات التي أدَّت إلى تضخيم عملية النقل الأعمى، أو ما باتت تسمَّى بعملية «النسخ واللصق». بالطبع لا يمكننا أن ننكر أهمية هذه التقنيات التي وفرت لنا كماً كبيراً من المعلومات لا يمكن تصوره، ولكن تخيل أن أحدهم كتب مقالاً وقع فيه خطأ ونشر المقال على صفحات الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وفي غضون بضع سنوات تم نسخ ولصق المقال آلاف المرات دون مراجعة الخطأ الوارد فيه، وبذلك يحدث تواتر الخطأ؛ ما يجعل البعض يتوهَّم أن هذا الخطأ هو الصواب. وعلينا أن نعترف أن الخطأ ليس بالوسيلة ولكن في سوء استعمال الوسيلة.

صناعة أسطورة القطرب

سنتناول في هذا الفصل أسطورة القطرب التي لم تكن في الأصل أسطورة؛ إلا أن هناك عدة عوامل تداخلت فيما بينها لتكون كائناً أسطورياً، فالقطرب تعريب لمصطلحين يونانيين الأول بمعنى نوع من القرود والثاني بمعنى مرض نفسي وقد أدَّى التطور التطور الدلالي لتداخل المعنيين، وما زاد الأمر تعقيداً هو ربط المرض النفسي بطقوس آلهة شبيهة بالذئب. ملخّص كل تلك التفاعلات والتي سنأتي على تفصيلها لاحقاً أن هناك كائناً شبيهاً بالإنسان له رأس ذئب وهناك مرض نفسي يجعل الرجل يخرج ليلاً ويأكل اللحم، وربط بطقس يتحوَّل فيه الرجل مجازياً إلى ذئب، ومع وجود من يروِّج لوجود أصل علمي للكائنات الأسطورية يتحوَّل القطرب إلى أسطورة مساوية لأسطورة المستذئب.

القطرب في اللغة

جاء في مادة قطرب في معجم «تاج العروس»: «القُطْرُبُ، بالضَّمِّ: اللِّصُّ، والفَأْرَةُ. هكذا في نسختنا، وكذا في غيرها من النُّسَخ، وهو خَطَأُ، صوابُه اللِّصُّ الفارِهُ اللُّصُوصِيَّةِ، كما هو عبارةُ ابْنِ منظورٍ، وغيرِهِ.القُطْرُب: الذِّئْبُ الأَمْعَطُ. القُطْرُب: ذَكَرُ الغِيلانِ، وعن اللَّيْث: القُطْرُبُ: ذَكَرُ السَّعَالِي، كالقُطْرُوبِ، بالضَّمّ أَيضاً ... القُطْرُبُ: المَصْرُوعُ من لَمَمٍ أَو مَرارٍ. والقُطْرُبُ، في اصطلاح الأَطِبّاءِ: نَوْعُ من المالِيخُولْيَا، وهو داءُ معروف، يَنْشَأُ من السَّوْداءٍ، وأَكثرُ حُدُوثِهِ في شَهْرِ شُبَاطَ، يُفسدُ العَقْلَ، ويُقَطِّبُ الوجْهَ، ويُدِيمُ الحُزْنَ، ويُهَيِّمُ باللَّيْلِ، ويُخَضِّرُ الوَجْهَ، ويُغَوِّرُ العَينينِ ويُنْحِلُ البَدَنَ، نقله الصّاغانيُّ. القُطْرُبُ: صِغَارُ الكِلاَبِ، وصِغَارُ الجِنِّ. حَكَى ثَعْلَبُ أَنَّ القُطْرُبَ الخَفِيفُ، وقال على إِثْر ذلك: إِنّه لَقُطْرُبُ لَيْلٍ، فهذا يدُلُّ على أَنها دُوَيْبَّةُ، وليس بصفةٍ كما زعمَ. القُطْرُبُ: طائرُ ودُوَيْبَّةُ كانت في الجاهلِيَّة يزعُمونَ أَنّها ليس لها قَرارُ الْبَتَّةَ. وقال أَبو عُبَيْد القُطْرُبُ: دُوَيْبّةُ، لا تَسْتَريحُ نَهارَها سَعْياً».

القطرب عند ابن سينا

«هو نوع من المانخوليا أكثر ما يعرض في شهر فبراير/شباط ويجعل الإنسان فرَّاراً من الناس الأحياء، محبّاً لمجاورة الموتى والمقابر، مع سوء قصد لمن يغافصه ويكون بروز صاحبه ليلاً واختفاؤه وتواريه نهاراً كل ذلك حباً للخلوة وبعداً عن الناس، ومع ذلك فلا يسكن في موضع واحد أكثر من ساعة واحدة؛ بل لايزال يتردّد ويمشي مشياً مختلفاً لا يدري أين يتوجَّه مع حذر من الناس، وربما لم يحذر بعضهم غفلة منه وقلة تفطن لما يرى ويشاهد‏.‏ ومع ذلك فإنّه يكون على غاية السكون والعبوس والتأسف والتحزّن أصفر اللون جاف اللسان عطشان وعلى ساقه قروح لا تندمل وسببها فساد مادته السوداوية وكثرة حركة رجله وتنزل المواد إليها، ولاسيما هو كل وقت يعثر ويساك رجله شيء أو يعضّه كلب فيكون ذلك سبباً لكثرة انصباب المواد إلى ساقيه فيكون فيها القروح ولبقائها على حالها وحال أسبابها لا تندمل ويكون يابس البصر لا يدمع بصره ويكون بصره ضعيفاً وغائراً كل ذلك ليبس مزاج عينه‏.‏ وإنما سمي هذا قطرباً لهرب صاحبه هرباً لا نظام له ولأجل مشيه المختلف فلا يعلم وجهه وكما يهرب من شخص يظهر له فإنه لقلة تحفظه وغور صواب رأيه يأخذ في وجهه فيلقى شخصاً آخر فيهرب من الرأس إلى جهة أخرى والقطرب دويبة تكون على‏:‏ وجه الماء تتحرك عليه حركات مختلفة بلا نظام وكل ساعة تغوص وتهرب ثم تظهر وقيل دويبة أخرى لا تستريح وقيل‏:‏ الذكر من السعالي وقيل‏:‏ الأمعط‏.‏ والأشبه لموضعنا القولان الأولان وسبب هذه العلة السوداء والصفراء المحترقة»‏.‏

مما سبق نستنتج أن هناك ثلاثة مفاهيم تنضوي تحت مصطلح القطرب ولا يوجد أي علاقة بينها وقد تم الربط بينها بسبب التطور الدلالي لكلمة «قطرب» وتحولت لأسطورة، وتلك المفاهيم هي:

1 - القطرب نوع من المالنخوليا (أو الملنخوليا):

كلمة القطرب التي تعني نوعاً من الأمراض النفسية هي معرَّبة عن اليونانية Kynanthropy أو Cynanthropy وتعني الرجل الكلب، ويسم المرض أيضاً Lycanthropy؛ أي الرجل الذئب، وأقدم وصف مكتوب لمرض Lycanthropy كان من قبل الطبيب اليوناني مارسليوس سايدي Marcellus Sidetes الذي عاش في القرن الثاني الميلاد، ويبدو أن أطباء العرب نقلوا عنه، وقد زعم البعض أن الملك نبوخذ نصر قد أصيب به، ولكن لا يوجد دليل واضح على ذلك، وأفضل كتاب لتتبع تاريخ هذا المرض والمزاعم المختلفة حولة هو كتاب Eisler الشهير Man into Wolf. وقد حدث الربط بين هذا المرض والمستذئب (أي الرجل الذي يتحوَّل إلى ذئب) في فترات لاحقة من التاريخ وخاصة في القرن السادس عشر وهي فترة شاع فيها الاتهام بالشعوذة، وتشير المراجع أنه بين الأعوام 1520م و 1630م تم تشخيص 30 ألف حالة مصابة بمرض Lycanthropy وذلك في فرنسا فقط (Gordon 199، p. 727). وبسبب اقتران هذا المرض بحقبة القرون الوسطى وما بعدها اعتقد البعض أن المرض تم اكتشافه في القرون الوسطى، وحين القيام بعملية بحث في محركات البحث في الشبكة العنكبوتية نفاجأ بجملة «اكتشف المرض الطبيب مارسليوس سايدي الذي عاش في القرون الوسطى»، تكررت هذه الجملة في أكثر من 1000مقال منذ 2007م حتى 2011م، ونشرت في منتديات عامة ومنتديات متخصصة كالطبية والجامعية، وعدد من الصحف، ومن الواضح أن جميع تلك المقالات منقولة عن أصل واضح ولم يلحظ أحد الخطأ الفادح في هذه الجملة، وفي جميع تلك المقالات هناك استنتاج واحد يمكن التوصل إليه وهو أن أسطورة المستذئب لها أصل علمي، وهذا بعيد عن الصحة، فالمستذئب يمر بعملية تحول وقد انتشرت أسطورته في حقبة زمنية ساد فيها الاعتقاد بوجود السحرة والجن والمتحولون.

في الوقت الراهن يرى بعض المتخصصين أن هناك مرضاً آخر هو المسبب لأسطورة المستذئب وهو مرض البورفيريا، والبعض يرسم علاقة بين هذا المرض ومرض Lycanthropy، ويبدو أن هناك من يعمل جاهداً لجعل أسطورة المستذئب تبدو حقيقية.

2 - القطرب وطقس Lupercalia:

هو طقس يوناني وروماني قديم له ذكر في حقبة ما قبل الميلاد وقد أفرد له Eisler ملحقاً في كتابه (Eisler 195، pp. 254 - 261) وهو احتفال الذئب الذي يقام في شهر فبراير/شباط؛ إذ يتم تمثيل امرأة تلبس جلد الذئب في صورة الآلهة المستذئبة التي ترضع الأطفال اليتامى. هذه المعلومة ترجّح اقتباس العرب تفاصيل المرض عن الكتاب اليونانيين أو الرومانيين والذين خلطوا ما بين الطقس والمرض، وبذلك أصبح مرض القطرب شائع في شهر فبراير.

3 - القطرب نوع من القرود:

كلمة قطرب بمعنى نوع من الغيلان أي نوع من القرود وربما تكون معرَّبة من اليونانية لاسم نوع من القرود له رأس يشبه رأس الكلب واسمه Cynocyphalus (أي كاينوسيفالوس) وتعني «ذو رأس الكلب» وهو الاسم الذي سمى به أرسطو القرد الكلبي الرأس وقد سماه الفرس على ما ذكر حمدالله القزويني في «نزهة القلوب» «سك سار» أي شبه الكلب (معلوف 1985، ص 15)

العدد 3337 - الأربعاء 26 أكتوبر 2011م الموافق 28 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً