العدد 3337 - الأربعاء 26 أكتوبر 2011م الموافق 28 ذي القعدة 1432هـ

من لا موقف له لا حياة له

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أحاول تجاوز الألغام؛ ولكنها في كل مكان، تكاد تكون حتى في الهواء. أحاول تجاوز فقر الذين من حولي؛ لكن اللصوص والفاسدين والمرتشين وقطاع الطرق الحداثيين في نهبهم، أكثر من الأشواك في الطريق المؤدية إلى المقابر المهجورة. أحاول تجاوز الغرق؛ لكن عواصف تجار المزايدات وكتبة نشرة الطقس السياسي، مازالوا يعتقدون أنهم يتحكمون في مزاجه ومزاج المخلوقات.

أحاول تجاوز خساراتي؛ لكن المشكلة ليست في الخسارات؛ بل في الذين يربحون على حسابها. أحاول تجاوز الجيف من حولي. جيف ترتدي آخر صرعات الموضة؛ لكنها تظل أقل شأناً من مزبلة. أحاول الدخول في سباق مع الزمن بشرف؛ لكن تجار المراهنات قد حسموا الأمر قبل بدء السباق.

لا مشكلة لدي مع المصارف؛ وخصوصاً المصارف العابرة للقارات؛ مادامت خزائن للودائع. مشكلتي معها حين تتحول إلى سرقة تلك الودائع وخيانتها باسم الأزمة المالية العالمية التي لم يخلقها الفقراء بل خلقها اللصوص من الأغنياء ومنتفخي الأوداج، وفوق هذا وذاك، ضياع وتلاشي تلك الودائع عبر تمريرها لمن يمارس كل البذاءات والسطوة في عالم اليوم؛ فيما البعض لا يجد ما يرمم به تدهور البسيط من حياته؛ وما ينفي عنه صفة الانتساب إلى الكائن البشري بفعل الأوضاع المزرية التي يعيشها في صور أقل من أوضاع يعيشها الحيوان.

لا مشكلة لديّ مع القبيلة والطائفة و «الرباطية» مادامت مقتنعة بأن زمن القبائل والطوائف و «الرباطيات» في فرض الإرادات بعيداً عن الدولة والنظام الذي يحكم المواطنة ويجعلها مؤشره الأول في التعاطي مع جميع المكونات التي يسوسها، باتت خارج الزمن وفي ذمة التاريخ، ولا يمكن للعالم أن يستقيم في علاقاته بهكذا تخلف وتراجع ونزعات بغيضة ومهددة لاستقرار العالم، في حال أطلّت برأسها من باب المصالح والمكاسب وتسجيل النقاط؛ ولو أدى ذلك إلى إرسال العالم بكل كائناته إلى محارق ترتئيها تلك الأطراف.

لا مشكلة لديّ مع من يجد في سماجته وتخيلاته وتقريراته وهو في ذروة الحياة، مادام لا يتعامل مع المآسي والكوارث لدى غيره؛ باعتبارها أعياداً وطنية إضافية. ثم أحاول أيضاً أن أتحين الفرص لفصح الوشايات والتشهير بالغدر، والدفاع بكل ما أوتيت من أدوات مشروعة عن كل مطعون وضائع ومغدور ومخون ومتآمر عليه وعرضة لبرامج البورنو اللاأخلاقي وبرامج التصفية والاسترزاق.

أحاول ألا أنسى إشاعة الإساءة والإصرار عليها والتقرب إلى الله بها. أحاول أن أعيد إلى الفطنة وعيها بعيداً عن نشرات الأخبار ومهرجانات التحشيد والتزكية الخارجة على القيمة والمعنى.

أحاول دائماً ألا أتذكر اليقينيات والثوابت والثقة بعدل الله لا الخارجين عليه وعلى القيم التي يريد لها أن تسود؛ لأن اليقين لا يحتاج إلى تذكر أن الخالق وحده الذي يحبس عنك الشمس والهواء والرزق والصحة والذكاء والقوة والحياة في نهاية المطاف، وما عداه يظلّ متجرئاً على الله، ولا يملك من القوة جناح بعوضة مهما طغى وتجبر وتفرعن في الأرض.

والذين يصرّون على أنهم وكلاء على البشر، ووكلاء على إراداتهم وخياراتهم ومصائرهم، واهمون؛ إذ لم يُعطَ ذلك الحق للأنبياء والرسل أنفسهم، الذين جاءوا لإصلاح العور والفساد في الحياة؛ فكيف يُمنح للذين أمعنوا في الحياة عوراً وفساداً؟ «وما أنت عليهم بوكيل» (الشورى، 6) «وما أرسلناك عليهم وكيلا» (الإسراء، 17).

تظل القيمة الحقيقية والكبرى لأي إنسان منا في قدرته على تحدي وتجاوز ما يسيء إلى إنسانيته وقيمته وقدرته على عدم التفرج على ما يخدشها ويمسّها ويضعها في زاوية الإدانة بالمزاج والبركة والعُقد النفسية والعقلية واللعن والرجم؛ وخصوصاً إذا جاء فاحصاً لمقدماته وأسبابه.

وصاحب الحق لا يجد قيمته بعيداً عن حق الآخرين حين يختطف، والحرية التي تغيب والمتلاعب بها، وكرامتهم المصادرة تحت أكثر من عنوان، وفي النهاية، إنسانيتهم التي يراد خصخصتها، وإدخالها ضمن التركة.

لا صاحب حق يشعر بقيمته بعيداً عن مضامين إنسانية، وما يتفرع عن تلك المضامين. والذين لديهم القدرة على التعايش بعيداً عن تلك المضامين، لا أثر يدل عليهم، في ظل هكذا مصادرات تطولهم بالجملة والمفرق، ولا أثر يدل على أنهم أحياء يرزقون. لا رزق مع إهانة وإذلال وبطش وإسكات وحرمان حتى من فتح فم احتجاج.

خير للبشر في مجموعهم أن يتفقوا على قيمة كل فرد منهم واحترامه، وحتى على قيمة الأشياء من حولهم واحترامها؛ ما يشيع ثقافة استقرار تطول كل مناحي الحياة، وتنعكس على مجالاتها ومواقعها، وتكرس وتعمق مبادئ الكفاءة فيما بينهم في المواقع التي تتطلب الاضطلاع بتسيير شئون البشر، والقيام على مطالبهم، والحرص على حقوقهم، بعيداً عن أي اعتبارات منفرة وجاهلية في القرن الذي من المفترض به أن يقود إلى الرؤية لا العمى، والتعريف والمعرفة لا التجهيل والتعتيم، وسيادة الحقوق بعد سيادة القوة في جانبها المظلم والقميء.

وعوداً على بدء، لا مشكلة لديّ مع الحياة نفسها في اتزانها أو اختلالها. في اتزانها أن أكون ضمن منظومة ذلك الاتزان، وفي اختلالها، لا معنى لحياة في ظلها، ولا مشكلة لديّ إن أصبحت باحتجاج ورفض تتيحه لي كل شرائع السماء والقوانين الوضعية؛ مادام في حدود الحق وعدم تجاوزه، أقول لا مشكلة لديّ إن لم أصحُ في اليوم التالي.

تظل الحياة موقفاً، ومن لا موقف له لا حياة له، بغض النظر عما يمكن أن يمثل مشكلة لي أو خلاف ذلك.

وفي النهاية، الحياة ليست نزهة. إنها اختبار قدرتنا على أن نستحقها، أو نكون متطفلين عليها

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3337 - الأربعاء 26 أكتوبر 2011م الموافق 28 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 12:19 م

      نعمة العقل

      والذين يصرّون على أنهم وكلاء على البشر، ووكلاء على إراداتهم وخياراتهم ومصائرهم، واهمون؛
      حاول تفهم يا فهيم والمعنى في قلب الشاعر
      هناك اناس كثار يصرون على انهم وكلاء عن الاخرين ويسلبوا حق التفكير لديهم ويجعلوهم مجرد اخشاب مسند يقولوا لهم يمين يذهبوا يمين قالوا شمال يذهبوا شمال لا راى لهم علم بان الله سبحانه وتعالى ميز الانسان بالعقل اذن ما فائدة العقل اذا لم يستخدمه صاحبه ويسلم امره الى اخرين يفكروا عنه الحمد لله الذي وهبني العقل والارادة والتصرف بنفسي

    • زائر 8 | 3:55 ص

      وديا ارتاح وعين موقفي ولأكن

      أي موقف أضع نفسي فيه وأنا مهدد بين المطرقة والسندان ,فعندما انظر يمين لا أرى ألا أصحاب المصالح والنفوذ تصفق وتهلل وتسب وتشتم وتهول لما حصل وما لم يحصل, لتجبرني إلى أن أنطم, وإذا نظرة إلى اليسار لا أرى آلأ مجموعات من البشر تمردت على نفسها من الجوع ,والقهر ,والضجر ,فحولت أجدادها قبل آبائها إلى خدم تغسل وتطبخ لها, ومن ثم غارت على قياداتها ولقبتها بألقاب تنمو عن الحقد وفقد الآمل تطالبها بحق بعيد الآمل ,فأي موقف لي أضع قدمي وأنا مشغول بين الدكتور والحواج, اكتب لي ياأخي وصفة تنفعني من الضغط والبلوه.

    • زائر 5 | 2:16 ص

      قلم رائع

      لا تعليق سوى أنك قلم يستحق المتابعة والانتشار
      جميل استاذ
      عاشقة المطر

    • زائر 4 | 2:08 ص

      جمري ساعات ما اقدر افهمك

      قصدك اللي ما عنده بارك لاني كانت عندي عقده من مقوله قديمه وهي الرجال مواقف كلما امر على بارك كبير اخز فيه واقول خوش رجال هذا اما الان ياعمي الدنيا صارت زحمه والباركات قليله صارت وعشان هكذا قلت الرجال

    • زائر 3 | 1:44 ص

      مو بخاطري أبقى بدون موقف ولا بارك

      برذر جأفر
      حاولت يوما أن أكون بموقف فتذكرت اصحاب المواقف كيف تغيرت مواقفهم ليست مواقف المتسلقين والمنافقين و مستغلي الظروف ولكن اصحاب المواقف الشريفة ، تغيرت مواقفهم بسبب ما واجههوه من أهوال واستطاعو الصبر على الأهوال والزلزال ولكن عندما وصل الزلزال إلى من هم عقلي وروحي قلت يا زلزال خذني واني قد تخليت عن ومواقفي وحتى موقفي (البارك)

    • زائر 2 | 1:00 ص

      Thank you

      Many thanks Mr. Jaffar for the above article
      It was worth reading

اقرأ ايضاً