العدد 3431 - السبت 28 يناير 2012م الموافق 05 ربيع الاول 1433هـ

صراع مصر مع الحكم العسكري

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

ما وقع في مصر قبل عام كان ثورة بكل المقاييس الإنسانية والوجودية، فالموجات الصاعقة من الناس التي هبطت إلى كل الميادين والمدن لم تكن سوى موجة ثورية عارمة أرادت تحقيق أكبر تغيير ممكن في حياة المصريين. الثورة في مصر واجهت نظاماً قديماً ومستعصياً، لديه مؤسسات راسخة من أهمها وأقواها مؤسسة الجيش الحاكمة. لقد أدت الثورة المصرية إلى سقوط أجزاء رئيسية من النظام الذي قاده الرئيس السابق مبارك، لكن أجزاء أخرى رئيسية لم تتغير ومازالت راسخة وتهدد نجاح التغيير. سقوط مبارك ونظام التوريث لم يعنِِ أن المصريين نجحوا في إسقاط التسلطية التي تتمثل أساساً بسلطة الجيش التاريخية التي طالما تحكمت بالحياة السياسية في مصر. وعلى رغم أهمية الجيش كمؤسسة وطنية مصرية، إلا أن أزمة الثقة بين هذه المؤسسة وقطاع كبير من الشبان الذين صنعوا الثورة لن تحل إلا إذا أبدى الجيش مرونة وسرعة في استعداده للتخلي عن السلطة لصالح حكم مدني يتمتع بصلاحيات حقيقية. وبينما سعى العسكريون للاحتفال بانتصار الثورة، يريد الثوريون من جانبهم استكمال الثورة. نحن أمام مشهد تصادم بين فلسفات مختلفة ورؤى مختلفة لما وقع منذ عام. قد يكون يوم 25 يناير في الذكرى السنوية الأولى للثورة فرصة لحشد هدفه تسليم السلطة للمدنيين.

الثوريون المصريون الذين صنعوا ثورة 25 يناير لم يسعوا لاستبدال سلطة مبارك بسلطة الجيش، بل سعوا من خلال ثورتهم لإقامة نظام ديمقراطي يحترم التنوع ويفتح المجال للتعبير العلني الحر في إطار بناء دستور جديد توافقي وخطة واضحة المعالم للتنمية الاقتصادية المتوازنة. هذا المشروع لا يمكن أن ينجح في ظل تحكم العسكريين وسيطرتهم على مفاتيح السياسة والقرار. وكما تدل أحداث المرحلة الانتقالية وسقوط الكثير من الضحايا والشهداء وانسحاب محمد البرادعي من سباق الرئاسة، فإن المعركة في مصر مفتوحة على كل الاحتمالات. إن الجيل المصري الذي صنع الثورة يعي معنى استكمال التغيير في إطار رؤية جديدة لمصر.

وبينما يسعى النظام السياسي وفق رؤيته العسكرية لخنق وتصفية إرث الثورة والثوريين، يقاتل الثوريون حتى الرمق الأخير في محاولة لاستمالة الرأي العام المصري وإحداث تغيير جديد. في مصر تظاهرات دائمة في الأحياء والمدن، وهناك سعي من قبل الشبان الثوريين لكسر احتكار الإعلام الذي يمارسه النظام الجديد من خلال تفعيلهم لإعلام شعبي يصل إلى كل الناس. وعلى رغم ما مثَّلته انتخابات مجلس الشعب أخيراً من حدث ديمقراطي إلا أن استمرار محاكمات المدنيين أمام المحاكم العسكرية والاعتقالات العشوائية والمنع الإعلامي والضغط على حرية التعبير وتعاظم دور الأجهزة الأمنية القمعي مثَّلت امتداداً لعهد مبارك.

والواضح أن الثوريين المصريين يخشون من تكرار سيناريو 1954 عندما وقع حراك في الشارع المصري بهدف تثبيت نظام ديمقراطي بعد انقلاب الضباط الأحرار. لكن ذلك الحراك قمع بقوة بينما تحول انقلاب الضباط الأحرار مع الوقت إلى نظام سياسي جديد يحتكره الجيش. وتخشى مصر في 2012 من تكرار ذلك السيناريو القديم، ولهذا تستمر الثورة والاعتصامات وحملات المطالب وحالة المواجهة في الشارع مع المجلس العسكري.

إن الجيش في مصر قوة كبيرة تتحكم بجزء كبير من الاقتصاد. الجيش يملك مصانع ومؤسسات وتعاونيات وأجهزة لا تخضع للرقابة أو للمساءلة. كما أن وزارة الدفاع دولة ضمن الدولة، والجيش لا يقبل أية رقابة عليه ولا يقبل بأن يعين مدني وزيراً للدفاع أو أن يعين في الدفاع شخص من خارج المؤسسة أو غير مقبول لديها. وكما نعلم من علم السياسة فالسلطة التي لا تتعرض للمساءلة تتحول بنيوياً إلى منتج للفساد والإفساد. للجيش بصفته مؤسسة عسكرية وسياسية واقتصادية حاكمة مصالح عميقة. الجيش هو إذاً أساس الحكم في مصر وخروجه يمثل تغييراً عن الشكل الذي عرفت به مصر منذ العام 1952.

ولا توجد حكومة في العالم يمكن أن تنجح في بناء ديمقراطية بينما الجيش يسيطر على الاقتصاد ويتصرف باستقلالية عن السياسيين. إن النظام العسكري في مصر غير مهيأ وظيفياً وإدارياً وفكرياً للتعامل مع مشكلات المجتمع المصري المعقدة، وهو بطبيعته سيعيد إنتاج النظام المصري القديم، ما يعيد أزمة مصر إلى المربع الأول. وبينما قد يسعى الجيش في مصر إلى أن يكون الرئيس المصري القادم قريباً من المؤسسة العسكرية إلا أن هذا سيعني فشل الإصلاح في مصر، لهذا من الطبيعي أن ترفض القوى الثورية هذا الاحتمال لأنه يعيد مصر إلى النظام العسكري.

كان لسان حال النظام السابق في مصر أن وجوده ضمانة لعدم مجيء الإسلاميين المتطرفين إلى السلطة. لكن بفضل الثورة المصرية سقط النموذج السياسي القائم على الخوف والتخويف من الإسلام السياسي. وتبين أن بإمكان القوى الإسلامية أن تتطور وتتغير وأن تتصالح في الوقت نفسه مع التنوع والتعايش. لقد انتقل الصراع، كما هو حاصل الآن في مصر، إلى صراع على الديمقراطية ولأجل الديمقراطية، فالشباب المصري الذي سقط في الميادين بعد الثورة يقدم حياته من أجل الديمقراطية وانتقال السلطة إلى المدنيين. إن التناقض اليوم في مصر ليس بين الإسلاميين والليبراليين، بل هو مع مخاطر استمرار النظام غير الديمقراطي وبقاء العسكريين في السلطة.

إن ما يوحد قوى التغيير في مصر، سواء كانت مكونة من شبان ميدان التحرير أو من "الاخوان المسلمين" والتيارات الأخرى هو الحرص على بناء قواعد مصر الديمقراطية. وهذا بطبيعة الحال سيفرز إصراراً أكبر وأوضح بين المصريين على رئيس مدني مستقل. فالثوريون الذين صنعوا الثورة لن يتنازلوا عن مبدأ الديمقراطية أولاً. كما أن "الإخوان المسلمين" الذي كانوا في السجون على مدى سنوات المعارضة يعرفون أنه لا مستقبل لمصر من دون نظام ديمقراطي حقيقي يضمن عودة العسكر بصورة حقيقية إلى الثكنات.

إن الدفع بهذا الاتجاه قد يجد له فرصة كبيرة بمناسبة مرور عام على الثورة المصرية. قد تختلف التكتيكات والأساليب، لكن الواضح أن مصر أمام بداية حشد كبير هدفه إنهاء الحكم العسكري من دون أن يعني هذا كسراً للجيش ولدوره الوطني. المصريون يريدون الظفر بمدنية السياسة على حساب عسكرتها

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 3431 - السبت 28 يناير 2012م الموافق 05 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً