العدد 1426 - الثلثاء 01 أغسطس 2006م الموافق 06 رجب 1427هـ

تاريخ المكان وعمارة تشهد التحولات

«عمارة يعقوبيان» أعادت السينما المصرية إلى عهدها الذهبي

نبيل عبدالكريم comments [at] alwasatnews.com

.

هل تعود السينما المصرية إلى عهدها الذهبي في أربعينات وخمسينات القرن الماضي؟ آنذاك كانت السينما المصرية مميزة وتحتل مواقع متقدمة في الترتيب العالمي. بعد تلك الفترة أخذت بالتراجع إلى أن تدهورت عموماً في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وباستثناء تلك الأعمال الخاصة التي تميزت بها أفلام يوسف شاهين والدائرة المحيطة به كان من الممكن القول إن السينما المصرية دخلت في حال من الاحتضار.

فيلم «عمارة يعقوبيان» الذي يعرض الآن في سينما السيف أعاد الأمل مجدداً إلى إمكان تجديد السينما المصرية. فالفيلم ممتاز في الأداء والتمثيل والتماسك الدرامي والإخراج. ولهذا يمكن وصفه بأنه بداية انطلاقة لسينما عريقة أخذت تفقد جمهورها المميز وتحديداً تلك النخب العربية التي تبحث عن فن راق يرفع من شأن ثقافة تعتبر مهمة في عالم يعتمد على البصريات في تأثيره على وعي الناس.

«عمارة يعقوبيان» فيلم حقيقي وعلى أكثر من اتجاه سواء على مستوى الإنتاج والإخراج والتصوير والتمثيل. والأهم من كل ذلك تلك الأفكار التي جاءت في سياق درامي متماسك.

ينطلق الفيلم من تاريخ مبنى (عمارة) ليستعرض من خلال ذاك التاريخ تلك التحولات التي شهدتها مصر في محطات متعاقبة. فالعمارة التي يملكها يعقوبيان تمت هندستها لتكون نموذجية ويعيش فيها الباشوات. فالمقر فخم، والموقع مميز، والسكان من شريحة «عليا» يعيشون حياة البذخ في بلد كان آنذاك يعتبر في مقدمة الدول العربية. الا أن الزمن تغير، ودخلت مصر عصر الانقلابات العسكرية، ثم التأمينات الاشتراكية، ثم نزوح شريحة من المثقفين خارج البلاد، ثم هروب الباشوات إلى مناطق سكنية بعيدة أو انتقلوا إلى أوروبا أو دول عربية مجاورة.

التحولات الزمنية أثرت على تاريخ المكان (العمارة) إذ تغيرت تركيبة المبنى السكانية ولم تعد يعقوبيان تلك العمارة الفخمة التي تعيش فيها شريحة من الناس المميزين في موقعهم الاجتماعي ونمط حياتهم اليومي.

هذه هي قصة العمارة؟ فالمبنى (المكان) ثابت ولكنه تغير بسبب تحولات الزمان. والزمان السابق كان للباشوات ثم انتقل إلى شرائح مختلفة متفاوتة الانتماءات الاجتماعية.

مخرج الفيلم يدخل إلى طبقات العمارة. وكل طابق له تاريخه وزمانه وتحولاته وتبدلاته. وفوق الطبقات تقع منازل فقراء وخدم يعيشون فوق السطوح أو الطوابق الأرضية ومدخل العمارة. ومن هذا الاجتماع السكني تبدأ قصة العمارة. فهناك الباشا (الوحيد والأخير في المبنى) الذي شهد الانهيار من البدايات وكيف حصل التفكك والتراجع. هذا الباشا لم يتزوج ويؤسس أسرة وانما أنفق ما ورثه عن والده في اللهو والسفر والسهر والخمور. ولكنه وعلى رغم حياة الترف والتبذير بقي يتمسك بصفات الباشا (الشهامة والاخلاق والصدق).

وهناك الصحافي الشاذ وينتمي إلى عائلة ثرية أجنبية تربى في جو غير سوي جعله محل شماتة من جيرانه. وهناك ماسح احذية تمكن من الصعود الاجتماعي بسبب إتجاره بالمخدرات، وتظاهر بالتدين لإخفاء الثراء الذي يعيش فيه.

وفي العمارة هناك السطح الذي تعيش فيه أسر فقيرة تخدم السكان أو تعمل في وظائف بسيطة. سطح المبنى يشكل جزءاً مهماً من الرواية، بسبب تداخل حياة السكان واختلاطهم. وفوق السطح تنشأ قصة حب بين فتاة بسيطة وطيبة ومتواضعة وشاب يدرس في الجامعة ويطمح إلى دخول السلك العسكري. ولأن والد الشاب يعمل حارس مبنى وينتمي إلى عائلة فقيرة وجد الطالب الجامعي الطموح ان طريق المستقبل محكوم بالفشل أمامه.

ومن تاريخ المبنى والعائلات تبدأ حكايات الفيلم تتداعى وتتداخل وفق أسلوب منسجم ومتماسك. الباشا يختلف مع شقيقته التي تريد الاستيلاء على شقة شقيقها التي ورثها فتقيم عليه دعوى بتهمة الزنى. والشاذ الذي يصطاد من الشارع أولئك البسطاء النازحين من الصعيد يتعرض إلى حادث قتل في شقته على يد احدهم. وماسح الاحذية (تاجر مخدرات) يتقدم إلى البرلمان ويفوز بمقعد نيابي من طريق الرشوة والتزوير وبدعم مباشر من السلطة. وحين يكبر رأس التاجر مستفيداً من موقعه التشريعي والحصانة النيابية يصطدم مع رجل السلطة بسبب خلاف على نسبة الحصص وينتهي الأمر بانتصار السلطة وخضوعه لشروطها حتى يكفل حماية القانون لأعماله المخالفة للقانون وغير المشروعة. والشاب الجامعي الطموح الذي يفشل في الحصول على وظيفة تناسب علومه وتتخلى عنه خطيبته التي تتجه نحو الانحراف بينما هو يتجه نحو التدين. وتدخل قصة الشاب في سياق مختلف حين ينضم إلى جماعة دينية ويعتقل ويعذب ويعتدى عليه.

ورداً على الإهانة يتجه الشاب إلى التطرف وينضوي في لواء تنظيم مسلح وينتهي به الأمر إلى الانتقام من الضابط الذي اعتدى عليه فيقتله ويُقتل. بينما خطيبته الشابة تعود من جديد إلى طريق سوي بعد أن تلتقي الباشا الاعزب وينتهي أمرها بالزواج منه.

«عمارة يعقوبيان» حكايات مختلفة في قصة واحدة تتحدث عن مكان وتاريخه. فالمكان ثابت ولكن الزمن يتغير ولكل فترة رجالها واخلاقها وعلاقاتها وظروفها. الفكرة جميلة وعميقة وأهميتها انها اتخذت من العمارة محطة لتحرك البشر وصعودهم وهبوطهم وما يطرأ على الناس من متغيرات أحياناً تأتي مصادفة وأحياناً تحصل بالقوة. وفي كل الحالات... التاريخ يتغير ويبقى المكان (العمارة) يشهد على تلك التحولات

العدد 1426 - الثلثاء 01 أغسطس 2006م الموافق 06 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً