العدد 3479 - الجمعة 16 مارس 2012م الموافق 23 ربيع الثاني 1433هـ

ما لا تقوله الرأسمالية العولمية

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

هذا الانبهار بكل ما يقوله الفكر الرأسمالي العولمي، وعلى الأخص في صورته النيولبرالية الجديدة المتوحشة، وهذا الخضوع لإملاءات أدوات ذلك الفكر من بنك دولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي ومدرسة شيكاغو وأترابها الأوروبية... هذا الانبهار والخضوع يحتاج لمراجعة من قبلنا في بلاد العرب.

دعنا نأخذ مثال الإصرار الكامل بترك الأمور الاقتصادية، بما فيها بناء اقتصاد إنتاجي قادر على التنافس مع اقتصادات الدول الصناعية المتقدمة، تركه للقطاع الخاص الوطني وللاستثمارات الأجنبية دون تدخّل من الدولة. هذا المنطق تدحضه أي دراسة تاريخية لمسيرة نمو وصعود وعولمة القطاع الصناعي في الدول الرأسمالية الصناعية. فجميع الدول الصناعية الأوروبية والأميركية قد مارست سياسات الدعم المباشر وغير المباشر لصناعاتها في بدايات قيام تلك الصناعات، بل وحمتها من المنافسة الخارجية بشتى الإجراءات وعلى رأسها التعرفة الجمركية العالية على البضائع المستوردة المماثلة لبضائعها المصنعة محليًّا. ووصل الأمر في دول مثل إنجلترا إبَّان مجدها الإمبراطوري إلى استعمال القوة العسكرية والاحتلال الاستعماري لفرض ذلك. ولم يتوقف الدعم ولم تنتهِ الحماية إلاً بعد اطمئنان تلك الدول على أن صناعتها قد باتت قادرة على المنافسة.

وينطبق الأمر على الدول الحديثة العهد بالصناعة كالدول الآسيوية. فدول من مثل اليابان وكوريا ما كانت لتصبح بهذه المكانة الصناعية العالمية المنافسة، بل والمقتحمة، لولا اعتمادها في مراحلها الأولى على دعم الدولة. وما كان لشركة سيارات مثل تويوتا اليابانية أو سمسونج الكورية الجنوبية أن تصبحا منافستين عالميتين لولا أشكال كثيرة من الدعم والحماية التي قدَّمتها تلك الدول.

ولماذا نذهب بعيداً في التاريخ ونحن نسمع المناقشات الحامية في لجان منظمة التجارة العالمية بشأن حماية بعض الدول الغنية المتقدمة لمنتجاتها الزراعية في وجه ما تستورده من الدول الزراعية الفقيرة. بل وفي هذا الأسبوع تتحدث وكالات الأنباء عن شكوى الدول الأوروبية ضدّ شركة صناعة الطيران الأميركية (بوينج) لحصولها على أنواع من الدعم من قبل الحكومة الأميركية لتستطيع التغلُّب في منافستها لشركة صناعة الطيران الأوروبية إير باص.

الهدف من هذا السرد المختصر لتاريخ رأسمالي طويل هو تذكير الحكومات العربية، وعلى الأخص حكومات دول الفوائض البترولية في الخليج العربي، بأنها إذا كانت تحلم بقيام صناعات أساسية تعتمد التكنولوجيا المتقدمة، مثل السيارات والإلكترونيات، فإنها يجب أن تتمعّن في التجربة الآسيوية التي ما كانت لتنجح لولا الالتحام الكامل بين جهود الدولة وجهود القطاع الخاص. إن ذلك الالتحام اعتمد على وجود نظام حكم كفؤ ورشيد واعتمد على إنجازات محددة.

من هذه الإنجازات نظام ادّخار وطني وصل إلى حدود تعبئة ثلث الدخل الوطني للمشاريع الاقتصادية المجدية غير المظهرية والتفاخرية التي نجدها مثلاً في بعض دول الخليج. والكلام هنا عن اقتصاد إنتاجي عيني وليس عن اقتصاد مالي يقوم على المضاربات العبثية في العقار والأسهم. من هذه الإنجازات الانتقال من استيراد التكنولوجيا المتقدمة إلى تبيئتها ثم تطويرها وإنتاجها. وما كان ذلك ليتمّ لولا تغييرات جذرية في نظام التعليم لتخريج قوى عاملة كفوءة ومنضبطة ولولا دعم سخي لمراكز بحوث متقدمة تساهم في إنتاج المعرفة وفي عملية التطوير. فإذا أضيف إلى ذلك توزيع معقول لثمار ذلك الإنتاج الصناعي وترسيخ ثقافة الجديّة في العمل والإتقان يتبيَّن حجم الجهود التي بذلتها الدول لمساعدة القطاع الإنمائي الاقتصادي على الوقوف على قدمه.

في كتاب للكاتب الكوري الأصل هاجون شانغ عن أساطير التجارة الحرّة وأسرار تاريخ الرأسمالية يقول بأنه آن الأوان لقلب الحكمة التي تدّعيها النيولبرالية الجديدة وتنشرها في الدول النامية رأساً على عقب. فأقوال من مثل أن التجارة الحرّة تعطي الدول النامية حرية الاختيار، أو أن تواجد الشركات الدولية الكبرى يحسّن روح المنافسة لدى الشركات الوطنية، أو أن تقليد ممارسات شركات الدول المتقدمة أمر ضروري ومفيد، أو أن فقر الدول هو بسبب كسل شعوبها، أو أن أفضل الشركات هي التي لا دخل للدولة بها... إلخ مثل هذه الأقوال يجب أن تراجع وتنقد ويتمُّ تجاوزها. ذلك أن الأزمات الاقتصادية والمالية سواء الإقليمية أو العولمية منذ تسعينيات القرن الماضي قد أثبتت بما لا يقبل الشك بأن هذا التفكير وهذا النظام فيهما الكثير من نقاط الضعف الخطرة.

إن النقطة الأساسية في هذا الموضوع هو ما تثبته الأيام من أن حجر الزاوية في أي تنمية مستدامة شاملة هو في الاعتماد على الذات، دون أن ينفي ذلك التعاون مع الآخرين. إنه اعتماد ينطلق من تشخيص للواقع المحلي والانطلاق من متطلباته على مستوى الأقطار العربية من جهة وعلى مستوى الوطن العربي كله من جهة ثانية. إن أركان الفكر الاقتصادي الرأسمالي العولمي، الذي جعلت منه الليبرالية الجديدة ديناً لا يقبل الجدال، تهتزُّ في دول المنشأ، فهل سنمارس عادتنا التي اشتهرنا مع الأسف بها ونكون آخر من يساهم في إجراء مراجعة نقدية موضوعية لذلك الفكر؟ نرجو أن يكون الجواب بلا وذلك قبل فوات فرصة الحقبة البترولية التاريخية التي نعيشها.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3479 - الجمعة 16 مارس 2012م الموافق 23 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 10:09 ص

      لكتابات فخرو معقدة ....يجب إيصال المعلومة ببساطة.

    • زائر 5 | 7:10 ص

      عض البديهيات للاحرار فقط!!

      الدين دين الله و المال مال الله و الملك له.
      فمن أين جاء رأس المال؟
      وأين ذيله؟
      وأين جسده؟
      وهل النقد مال له رأس. فمن أين جاء الرأس للمال.

    • زائر 4 | 3:29 ص

      من يريد تحرير نفسه يعيش الحرية

      من وضع نفسه اسيرا للعبودية لن يعيش الحرية ولن ينعم برياحينها و الحرية المرادة أوسع من مجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعلمي والثقافي والتعليمي

    • زائر 3 | 3:29 ص

      الاقتصاد

      ما لدينا نحن المسلمين الا الرجوع الى القراءة المتأنية للاقتصاد الاسلامى ونعمل على تطبيقها والا سندور فى المتاهات . وأى اهمال أو الاستمرار فى هذا الاهمال سيكون بمثابة التسكع على أبواب الاقتصاد الرأسمالى الظالم الذى نعيشه . الظروف الحالية للدول الاقتصاد الرأسمالى خير دليل .

    • زائر 2 | 3:19 ص

      طابت أوقاتك يا دكتور

      اقتباس:
      ((حجر الزاوية في أي تنمية مستدامة شاملة هو في الاعتماد على الذات))،

      و الذات ... على ماذا تعتمد يا دكتور؟

      بالنسبة لي فالجواب معروف: و هو الإعتماد على الله تبارك و تعالى.

    • زائر 1 | 1:34 ص

      شكرًا لك دكتور

      كل ما أستطيع قوله هو أن مقالات الدكتور فخرو هي فعلا إثراء للفكر ومنارة تتفتح بها عقولنا على معلومات غنية وراقية ومهمة جداً . تحياتي لك دكتورنا الفاضل

اقرأ ايضاً